إطلاق صافرات الإنذار في مستوطنات الجليل
تاج الدين عبد الحق
عندما قابلته لإول مرة ، لم يكن وزير الاعلام العراقي السابق، محمد سعيد الصحّاف ، بالشهرة التي أصبح عليها بعد قيادته الحرب الاعلامية، إبان الغزو الامريكي للعراق في عام 2003 .
كان ذلك في مؤتمر قمة عدم الانحياز، التي عقدت في كوالامبور بماليزيا. كان العد العكسي لغزو العراق ، قد بدأ بالفعل. وكان العراق في ذلك الوقت يعاني من عزلة سياسية خانقة، وكانت قمة عدم الانحياز، اشبه بالقشة السياسية الاخيرة التي تعلق بها النظام العراقي، في ذلك الوقت ، لوقف تسارع عجلة الحرب التي كانت تتحرك بالفعل .
في ذلك الوقت كنت موفدا من قبل جريدة الشرق الاوسط ، لتغطية أعمال المؤتمر الذي كان يغص بعشرات السياسيين، والإعلاميين ، من كل جنس ولون .
كانت اجراءات الامن شديدة، ومع ذلك كان اجتياز حاجز الامن ، والدخول إلى الفندق الذي يعقد فيه المؤتمر بمثابة جواز سفر للاعلاميين، للتجول بحرية بين الوفود الرسمية ، والتنقل بين القاعات واللجان، ومشاركتها نفس طاولة الطعام عند الاقتضاء .
في هذا الفندق التقيت لإول مرة، الوزير محمد سعيد الصحاف، حيث كان برفقة وزير خارجية العراق في ذلك الوقت، ناجي صبري الحديثي . كان العراق هو قصة المؤتمر وعقدته ، ووجدت من الطبيعي أن أبادر للحصول على تصريح ، أو تعليق على البيان الختامي، الذي كانت ملامحه قد بدأت بالظهور . لكن ما أن قدمت نفسي حتى بادرني الوزير الحديثي، بهجوم من ينتظر فرصة ، مستخدما أوصافا مختلفة طالت الصحيفة، والعاملين بها، وبالخصوص رئيس تحريرها في ذلك الوقت الأستاذ عبد الرحمن الراشد ، الذي يرئس اليوم قناة العربية . لم يكن أمامي فرصة كبيرة للرد، لكني اذكر أنني قلت له مدافعا ، أنني هنا أودي عملا كما تفعل أنت ، ووسط إرتباك مني، وإنفعال من الوزير الحديثي، وجدت الصحاف يتدخل مطيبا خاطري، ومؤمنا على ما قلت .
هذا الموقف رغم أنه كان موقفا عابرا ، وفي فترة متوترة ، ذكره محمد سعيد الصحاف عندما قابلته للمرة الثانية في ابوظبي في مجلس الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الشباب وتنمية المجتمع بدولة الامارات ، الذي يجمع شخصيات لا تراها إلا في مجلس كمجلسه ، فهو قاسم محبة مشترك حتى بين الاضداد والفرقاء السياسيين العرب الذين طالما إحتضنتهم الامارات .
من ذلك اليوم تعددت لقاءاتي بالوزير الصحاف وتشعبت أحاديثي معه . بدا لي رغم الانكسار الذي يشعر به جراء ما حدث لوطنه ولأهله في العراق، متماسكا ، ومحافظا على صورة السياسي الملتزم الذي لم تبدله نوازل الأيام .
لم تؤثر به تلك التعليقات الساخرة السمجة التي نالت منه، و من مصطلح ( العلوج ) الذي اشتهر به، كوصف للقوات الامريكية الغازية لبلاده ، قال لي إن استخدام مصطلح العلوج كان استخداما واعيا، فله دلالة في التاريخ العربي الاسلامي، ويصور بدقة طبيعة الغازي الغليظة والمتوحشة . في الاحاديث العديدة التي تبادلتها معه، كنت أمام شخصية موسوعية في معلوماتها، ومثابرة في متابعة كل جديد في السياسة والتقنية، ومطلع على ما يدور من نقاشات فكرية ومذهبية . ومع أنه يحتفظ بمخزون وافر من المعلومات عن فترة الحرب على العراق وما سبقها وما تلاها ، ، فإنه نادرا ما كان يتطرق لهذا الجانب، وإن فعل فضمن إشارات عامة ومحدودة .
وبخلاف سلسلة الحوارات التي أجراها مع تلفزيون ابوظبي عند وصوله إليها ، لم يدل الصحاف باي أحاديث ، رغم محاولات كثيرين من العرب والاجانب لإخراجه عن صمته . وأظن ان هذا الصمت لن يطول وسيأتي اليوم الذي نرى فيه شهادة الرجل على تاريخ معقد وحساس كان هو من صناعه . حبل المودة الذي ربطني به، كان كافيا لأحاديث طويلة في شؤون، وشجون كثيرة لكن لم يكن أياً منها للنشر .