هاريس: هناك حاجة لخفض التصعيد في الشرق الأوسط
الغلو في الدين من أضر ما أصيبت به الأمم، وله مظاهر مختلفة ومنها الغلو في الأنبياء، وادّعاء أنهم يعلمون الغيب، وتجد الناس يتداولون قصائد تمدحهم وتطريهم بما ليس بحق، بل وبما يصادم دعوة الرسل لتوحيد الله، فتجدهم ينشدونها في المجالس والمنتديات والمحافل دون أدنى استنكار لما فيها من غلو.
لقد تولَّد عن ذلك الغلو جهل كبير بمعاني الإيمان والتوحيد في الدين، وأصيبت الأجيال بخلل كبير في مفاهيم الدين، ومن أعظم ما ابتُلي به الغلاة إسناد خصائص الألوهية إلى الأنبياء، حتى صرَّح بعض الغلاة بإطلاق لقب الألوهية على أنبيائهم، ومنهم من صرَّح بمعناه دون لفظه، وقد تجد أحد هؤلاء الغلاة يقول الكلمة فتُجعل أصلًا في الدين، ويُحرَّف لأجلها كلام الله وكلام رسوله عن مواضعه، ويُحمل على غير محمله اتباعًا لأهل الغلو، وتعظيمًا لقولهم، وما ذلك إلا لأن الغلو بتقديس البشر بلغ لدى البعض مبلغًا لا يستهان به.
الله يظهر من ارتضى من الرسل على ما يشاء مما يتعلق به تبليغ الرسالة المكلف بها، ومنه الملائكة والجنة والنار والحساب، وغير ذلك.
لقد علّمنا الله في كتابه وثبت لنا في الصحيح من سيرة خاتم رسله أن الأنبياء بشر، وأنهم عباد لله تعالى لا يمتازون على غيرهم إلا بالوحي الذي يلقيه سبحانه وتعالى إليهم ليبلغوه للناس، ولا يقومون بكتمانه، وهذا الاصطفاء - بلا شك - فضل رغم ما فيه من الابتلاء، لكنه لا يجوز أن نرفع الرسل بسببه عن منزلتهم، وأنهم عباد لا يملكون من الأمر شيئًا.
قال الله عز وجل: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) فالغيب لا يعلمه إلا الله وحده.
وفي الصحيحين، وغيرهما، عن عائشة أنها قالت: (من زعم أن محمدًا يخبر الناس بما يكون في غدٍ - وفي رواية يعلم ما يكون في غدٍ - فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)، ومن زعم أن أحدًا من الأنبياء فُضّل عن غيره من الخلق بعلم الغيب فقد كذَّب الله ورسوله، وخالف كتاب الله وسنة رسوله، وإن بلغ من العلم ما بلغ.
إن علم الغيب لا نهاية له، لأن منه علم ما مضى، وعلم المستقبل الممتد الذي لا نهاية له، وليس في وسع مخلوق أن يحيط علمًا بما لا نهاية له، وعلم الغيب كله محال عقلًا على البشر والملائكة وجميع الخلق، وهو مختص بالله بنصوص كثيرة في كتابه، ولم يرد أن الله تعالى أطلع رسولًا أو أحدًا من خلقه على كل غيبه، وإنما ورد أنه يُطلع من ارتضى من الرسل على ما يشاء من الغيب، كما قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا)..
من زعم أن قول الله تعالى: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) كان من باب التواضع فهو مبطل لكتاب الله ومخالف له.
فالله يظهر من ارتضى من الرسل على ما يشاء مما يتعلق به تبليغ الرسالة المكلف بها، ومنه الملائكة، والجنة، والنار، والحساب، وغير ذلك، فالواجب في هذا المقام الوقوف عند النص لا نتعداه بزيادة ولا نقصان، لأنه ليس للعقل مجال في عالم الغيب فيقيس ويستنبط، فما كان من النصوص قطعيًا كالآيات الكريمة المصرحة بالأخبار عن الأنبياء السابقين وأممهم، وعن الآخرة وما فيها، وعن الملائكة والجن، وعما وعد الله به هذه الأمة من الاستخلاف في الأرض فإننا نؤمن به وجحود ذلك كفر.
وما كان منها ثابتًا في أخبار الآحاد فلا يكلف كل مؤمن بعلمه والإيمان به، وإنما تلزم من ثبتت عنده الرواية واطمأن لصحتها، ولا وجه لرفضها لكونها غير متواترة إلا إذا عارضت دليلًا قطعيًا، كما لا يلزم غيره بقبولها هذا هو الأصل الذي لا نزاع فيه.
وأحاديث الآحاد الواردة بإخبار النبي بالغيب كثيرة، وقد ظهر تأويل المشهور منها كالإخبار بأن الله يفتح على المسلمين مصر والشام وغيرهما من الأقطار، والإخبار بأن عمارًا تقتله الفئة الباغية، وأن الحسن يُصلح الله به بين فئتين من المسلمين، وأن فاطمة عليها السلام أول أهله لاحقًا به بعد موته، وغير ذلك، وغير ذلك من الروايات الآحاد منها ما صح سنده، ومنها الضعيف والموضوع، ولا حاجة لنا إلى الكذب لإثبات فضله وخصائصه عليه الصلاة والسلام، فإن الثابت منها جليل القدر، وحسبنا قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وقوله: (وكان فضل الله عليك عظيمًا)، وقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وقد ذكرت -عليه السلام- خصائصه ولم يرد فيها برواية صحيحة ولا ضعيفة أن الله تعالى أطلعه على كل ما كان من الأزل، وما يكون في الأبد، فلا يحل الكذب على الله تعالى بغير علم، أو ادعاء أن ذلك من الإيمان، والله تعالى يقول: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون).. وأما ما ورد من أن الجنة والنار أنهما مثلتا له في عرض الحائط أو قبلة الجدار، ومن أنه زويت له الأرض فرأى ما يصل إليه ملك أمته منها فلا يدل على أن الله تعالى أطلعه على ما كان وما يكون مما ليس في استعداد البشر الاطلاع عليه؛ إذ لا نهاية له، ولا هو مما يتعلق به تبليغ الرسالة وهداية الخلق، والنصوص تنافيه.
واللهِ قد أتمَّ الدين وأكمله على لسان رسوله، فلا نسلم لأحد بأن فيه نقصًا يتممه، ومن زعم أن قول الله تعالى: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) كان من باب التواضع فهو مبطل لكتاب الله ومخالف له: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)..
فالآية تنفي أن يكون له خصوصية غير التبليغ بالإنذار والتبشير والمعنى إن الله تعالى أمرني أن أبلغكم بأنني لا أمتاز عليكم بصفات الألوهية كالقدرة على النفع والضر وعلم الغيب، وإنما هو بشر يوحى إليه والقرآن في جملته وتفصيله مؤيد لهذه العقيدة، فتأويل الآية بالتواضع مخالف للحق، وتفسير للقرآن بالرأي بغير برهان، وفيه ما فيه من الوعيد، ولا يمكن لعاقل أن يقول مثل ذلك في سائر الآيات كقوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).