اختزال التابوات الثلاثة في واحد
اختزال التابوات الثلاثة في واحداختزال التابوات الثلاثة في واحد

اختزال التابوات الثلاثة في واحد

موسى برهومة

بعد أن كان انتقاد الحكام والقادة والزعماء أمراً محظوراً ومحرّماً ومجرّماً بقوة القانون وسلطة الأمن، وتحذيرات المجتمع، أضحى هذا «التابو» عرضة للتفسّخ والتصدّع في زمن انفجار عوالم الاتصال واتساع رقعة «السوشيال ميديا»، وتراخي قبضة الرقابة.

وحصل الأمر ذاته مع الجنس، باعتباره ثاني التابوات، إذ تمتلئ رفوف المكتبات ومعارض الكتب بالروايات والكتب التي تتحدث في شكل صريح، وأحياناً فاضح وفاحش عن الجنس وأحواله، بكثير من التفصيل والترغيب والتزويق، حتى أضحى التعبير عن تمرّدات الجسد أمراً معتاداً، ومقبولاً، ناهيك بما تضجّ به السينما بكل ما لذ وطاب من «فاكهة الجنس»، باعتباره واحداً من التجليات البشرية والحاجات الإنسانية الملحة.

وجاء تهدّم هذين التابوهين بفضل انفتاح العالم، وتطور الحضارة، واتساع رقعة التعبير في فضاء معولم سريع الإيقاع، منعدم الحواجز.

بيْد أنّ التابو الثالث (الدين) وهو في الترتيب الأول، فلم يقوَ أحد على الاقتراب منه، أو قضم هيمنته على الفضائين العام والخاص، على رغم ظهور جماعات تعلن عن ميولها الإلحادية، وعدم قناعتها بالإيمان بمعناه الميتافيزيقي. والسبب في بقاء هذا التابو عصياً على التمزّق أنه محمي بسلطتين متعاضدتين في أغلب الأحيان: سلطة المجتمع وسلطة الدولة السياسية، وهذا ما نرى تمثلاته الواضحة في العالم العربي.

وإذا صدف أن جنح أحدهم إلى انتقاد حاكم ، فإنّ حساسية الناس تجاه هذا الفعل تكون أضعف من حساسيتها حينما يكون الأمر متصلاً بالدين أو العقائد الراسخة. ففي الحالتين الأوليين تتولى الدولة تنفيذ التعليمات بملاحقة المتسببن بالفعل، لكنها في حالة المسّ بالأديان تتحالف على نحو تلقائي مع قوى المجتمع في إدانة الفاعلين المعتدين على الدين وشعائره، أو إهانة الوجدان الروحي الجمعي.

بمعنى آخر، اختراق التابو السياسي متروك لأجهزة السلطة، بينما اختراق التابو الديني لا ينتظر تدخل الدولة وأجهزتها، فهو مسؤولية الناس أجمعين، باعتبار الدين ملكية جماعية يتم الدفاع عنها بشكل فردي، من دون تلقي أية أوامر أو دعوات لفعل ذلك. وفي حالة المجتمع العربي، فإنّ الدين يتعدى أن يكون رافعة روحية وحسب، كما هو الحال في المجتمعات الغربية والمتقدمة، بل هو آخر المتاريس الوجدانية والوجودية على حد سواء، فبالدين يحيا هذا الكائن الذي انهارت كل حصونه السياسية، وتفتت أحلامه القومية، وانشطرت تصوراته عن العالم الخيّر العادل الذي تتحقق بين أعطافه المساواة والإنصاف، لذا أضحى الدين ملاذاً أخيراً، لا يُسمح بالاقتراب منه أو إعادة النظر فيه، أو محاولة، (مجرد محاولة) التفكير في نقده، فقداسة النص الآن في أعلى ذراها، وعلى نحو غير مسبوق من ذي قبل.

ففي مجتمع عربي يتفاوت فيه توزيع الثروات، وتحيا غالبية سكانه تحت خط الفقر أو على تخومه، فإنّ الدين يغدو بمثابة تعويذة لقهر الألم وهزم الكآبة وإعادة رفد روح الإنسان بالصبر والرضى، وبهذه التعويذة يتحمّل الآلام، حتى لو كانت فقداً لعزيز، إذ بسبب قوة هذا المؤثر الروحاني السحري، يصبح الموت امتحاناً، والشقاء تمريناً على قهر النفس ورغباتها انتظاراً للحلم الفردوسي السرمدي الذي لا تغيب شمسه وملذاته.

في غمرة ذلك، ووسط هذه اللجّة الطاغية، يغدو نقد الدين محفوفاً بالأخطار وإثارة النزاعات وتهديد المنتقدين وقتلهم وترويع أهلهم وحرمانهم من السكينة، ما يدفع إلى إعادة المقاربات في النظر إلى مفهوم الدين والعقائد الإيمانية من لدن التيارات الليبرالية أو العلمانية التي تعتقد أنّ الدين بتأويلاته ذات المظان الأيديولوجية يسعى إلى الهيمنة على المجتمع وسلبه أية فسحة للتعبير والحرية والتعددية في الرأي. وإذا أحسنّا الظن بالليبراليين والعلمانيين العرب، وافترضنا أنهم من المثقفين التنويريين ذوي الشهادات العلمية العليا، وبعضهم درس في الغرب، أو تغذى على منجزاته، ولبعضهم الآخر خبرة أو تصورات لتحسين الأحوال في الدولة والمجتمع على قاعدة الكفاءة والمساواة والحرية الفردية التي تقدّس الإنسان كقيمة عليا، فإن ذلك يتعين ألا يتم على أنقاض التصادم مع القيم الإيمانية للناس وتسخيفها، أو تصديع المنظومة الوجدانية للتديّن الشعبي والارتطام الفظّ بها، لأنّ في ذلك خروجاً أكيداً من اللعبة السياسية، وربما خروجاً من الحياة بالمعنى الفيزيائي!

الحياة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com