بوتين.. خمس سنوات من المواجهة فى الداخل والخارج
بوتين.. خمس سنوات من المواجهة فى الداخل والخارجبوتين.. خمس سنوات من المواجهة فى الداخل والخارج

بوتين.. خمس سنوات من المواجهة فى الداخل والخارج

سامي عمارة

مع حلول مارس من هذا العام يكون بوتين أكمل سنواته الخمس الأخيرة من فترة حكمه التي تتواصل لما يزيد قليلا على 15 عاما، بما تتضمنه من لحظات فارقة في تاريخ روسيا والعالم، وبما فيها من سنوات، كان يحكم خلالها «من وراء ستار» رفيقه دميتري ميدفيديف الذي جاء به رئيسا للدولة، مكتفيا آنذاك برئاسة الحكومة إ لى حين عودته لولاية ثالثة، وبعد تعديل الدستور ورفع مدة الرئاسة الى ست سنوات بدلا من أربع.

وإذا كانت «السنوات الخمس» الأولي تركزت حول صراعه في الداخل مع أهم الأخطار التي هددت أمن روسيا كدولة ذات سيادة في إطار حدودها التاريخية ومنها الحركات الانفصالية ومحاولات «تقسيم» الدولة الي ولايات كان عددها يتجاوز الخمسين حسب خطة الإدارة الأمريكية في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

وفقد تأرجحت سنوات حكمه الخمس الاخيرة بين احتمالات وأخطار المواجهة مع الخارج في عقب اندلاع الأزمة الاوكرانية وفرض العقوبات الغربية ضد بلاده، ردا علي استعادة شبه جزيرة القرم بعد طول غياب عن الوطن دام لما يقرب من الستين عاما منذ قرر الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروشوف نقلها الي التبعية الإدارية لأوكرانيا في عام 1954. وما بين «الخماسيتين» الأولي والثالثة، كان خطابه «الناري التاريخي» في مؤتمر الأمن الاوروبي في ميونيخ في فبراير 2007 الذي أعلن فيه عن ضرورة انتهاء عالم القطب الواحد، وبناء عالم متعدد الأقطاب، والعزم على استعادة روسيا لمواقعها علي خريطة السياسة العالمية، ودعم قدراتها العسكرية والاقتصادية. وكان بوتين اودع ذلك الخطاب الكثير من ملامح العلاقات الدولية المعاصرة، بما جعله واحدا من اكثر زعماء العالم تأثيرا ان لم يكن أكثرهم، علي الأوضاع الدولية، وهو ما اعترف به الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما قبل رحيله حين قال بان «روسيا صارت دولة عسكرية عظمي ذات تأثير في المنطقة والعالم وان وجودها ضروري لحل القضايا الدولية» ، وذلك ما اكدته وتؤكده تطورات الأزمة السورية والاوضاع في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الاخيرة.

وبهذا الصدد نشير الي ان بوتين استعرض خلال السنوات الاخيرة قدراته وامكانيات من اختارهم للعمل معه علي السير علي حد السيف، بما يحقق لروسيا حماية مصالحها وأمنها القومي، دون الانزلاق الي ما من شأنه اشعال الصدامات الدموية او المواجهات العسكرية. ولنتذكر « عملية ضم القرم» وكانت علي وشك السقوط في قبضة الناتو الذي كان بعث بسفنه الحربية لاقتحامها قبل اجراء الاستفتاء الشعبي، الذي أسفرت نتائجه عن موافقة ما يزيد عن تسعين في المائة علي الانفصال عن أوكرانيا والانضمام الي روسيا. ولنتذكر ايضا ما قام به بوتين حين أعلن عن عمليته العسكرية في سوريا لإنقاذ سوريا من الوقوع في شرك التنظيمات الارهابية، وكانت دمشق قاب قوسين او أدني من السقوط، بعد ان داهمتها فصائل التنظيمات الإرهابية من «داعش»، و»جبهة النصرة» و»المعارضة المسلحة» التي كانت فرضت سيطرتها علي ما يقرب من «ثلث» احياء العاصمة السورية. ولنتذكر ثالثا ما سبق وقام به لإثناء البيت الأبيض عن خطته التي كانت تستهدف قصف سوريا والاطاحة برئيسها بشار الأسد علي غرار ما فعله في العراق من قبل، مقابل إقناع القيادة السورية بالتخلي عن اسلحتها الكيماوية. وها هو يواصل خطواته الرامية الي تحقيق التسوية السياسية في سوريا من خلال مباحثات جنيف والآستانة تحت رعاية الامم المتحدة. وكان بوتين حدد ملامح سياساته الداخلية والخارجية انطلاقا من تبنيه للتوجهات البراجماتية التي تكفل له الحصول علي اكبر قدر من المكاسب ، باقل قدر من الخسائر. وإذا كان الرئيس الروسي استطاع خلال سنوات ولايته الأولي تحقيق النصر علي الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز، والانصراف الي بناء البيت من الداخل من خلال الحد من تسلط رجال الاعمال وفك الارتباط بين الثروة والسلطة، واستعادة سيطرة الدولة علي اجهزة الاعلام والصحافة، فان ما حققه من نجاح علي هذه الاصعدة ، لم يكن الا حافزا جديدا نحو البدء في مرحلة اعادة بناء الدولة بما يتناسب مع تاريخها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، وبما يكفل لها الموقع الذي تستحق في الساحة العالمية. ولم يكن ما قام به بوتين في الداخل الا مقدمة لتوفير المناخ المناسب لانطلاقة سياساته الخارجية، بعد نجاحه في استعادة اغلبيته البرلمانية في مجلس الدوما من خلال دعم صفوف الحزب الحاكم وإنشاء «الجبهة الشعبية» التي كانت ولا تزال سنده الرئيسي في الشارع الروسي، بعيدا عن الأروقة الحزبية الضيقة بكل اطيافها وتباين توجهاتها. على ان ما قام ويقوم به بوتين على صعيد الداخل، لم يكن ليأتي ثماره المنشودة بدون سياسة مماثلة على صعيد الخارج، وهو ما يفعله بوتين في تؤدة واناة دون كلل لا تفت من عضده وعزيمته عقوبات او قيود، طالما نجح في تحويلها الى قاطرة للتغييرات على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومن هذا المنظور كانت خطواته التي اسفرت عن بعض الصدع الذي اصاب صفوف الاتحاد الأوروبي، واثرت على توجهات بعض بلدانه التي اقترب منها وعقد معها الكثير من علاقات الود، واتفاقات التجارة والاقتصاد مثلما فعل مع المجر وزعيمها فيكتور اوربان. كما نجح ايضا في لم شمل الكثير من بلدان الشرق والجنوب في تنظيمات سياسية واقتصادية مثل «بريكس»، و»مجموعة بلدان شنغهاي»، فضلا عن استعادة مواقع بلاده في بلدان الفضاء السوفييتي السابق التي يسمونها اليوم بلدان الجوار القريب، من خلال تنظيمات جديدة على غرار «الاتحاد الاورواسيوي» و«بلدان التكامل الجمركي». وكان بوتين فرغ مؤخرا من جولته في عدد من بلدان اسيا الوسطى قام بها تحت عنوان «تهنئة هذه البلدان بالذكري الخامسة والعشرين لإقامة علاقاتها الدبلوماسية مع روسيا»، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991. ورغم ان الهدف المعلن لم يكن يرقي إلى مستوي مثل هذه الزيارات واللقاءات الرسمية مع قيادات هذه الدول، فان ما خلص اليه بوتين من نتائج يقول باطمئنانه علي مواقع ومصالح روسيا في هذه البلدان التي طالما ارتبطت بروسيا بعلاقات تاريخية وثيقة طوال عهود القيصرية والإمبراطورية الروسية. وكان بوتين استهل جولته بزيارة قزخستان واللقاء مع زعيمها نورسلطان نزارباييف في إطار تقليد حرص زعيما البلدين علي التمسك به منذ جاء بوتين الي السلطة في روسيا مع مطلع القرن الجاري. ومن هنا لم تتسم الزيارة بما قد يجعلها خارج سياق الأهداف المعلنة وتوجهات التنسيق والتكامل المتبادل سواء علي الصعيد الثنائي او المتعدد الأطراف في إطار التنظيمات الإقليمية والدولية. وبهذه المناسبة توقف الزعيمان بوتين ونزاربايف خلال مباحثاتهما عند إنجازات «منصة الآستانة» التي طالما تعلقت بها أنظار المنطقة والعالم طوال الأسابيع القليلة الماضية التي شهدت اول مباحثات ضمت فصائل المعارضة السورية المسلحة ووفد الحكومة السورية تحت رعاية الامم المتحدة وكل من روسيا وتركيا وإيران. ومن قزخستان انتقل بوتين الي تاجيكستان المجاورة حيث التقي نظيره هناك امام علي رحمن الذي بحث معه حالة ومستقبل العلاقات الثنائية والتعاون العسكري ومستقبل القاعدة الروسية علي الحدود المتاخمة لافغانستان ودورها في مكافحة الاٍرهاب والحيلولة دون تهريب الأسلحة والمخدرات الي بلدان الفضاء السوفييتي السابق. اما المحطة الثالثة والاخيرة فكانت قيرغيزستان المثيرة للجدل منذ سقوطها في عام 2005، في شرك «الثورات الملونة» عقب ثورتي «الورود» في جورجيا، و«البرتقالية» في أوكرانيا.

وهناك في العاصمة بيشكيك، التي كانت تحمل اسم فرونزه القائد العسكري البلشفي السوفييتي حتي تغييره في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جرت مباحثات بوتين مع الرييس الماظ بك اطمبايف . وكشف الرئيسان في مؤتمرهما الصحفي المشترك في ختام مباحثاتهما عن الكثير المثير الذي شهدته هذه المباحثات. وكان اطمبايف اعترف صراحة بان بوتين شاكسه وداعبه ببعض فقرات أغنية تقول ان الثورات التي تفتقد البداية .. لن تكون لها نهاية، في إشارة غير مباشرة الي ان اطمبايف الذي كان في صدارة» ثورة السوسن» التي أسفرت عن الاستيلاء علي السلطة في قيرغيزستان عام 2005، عاد وترأس انتفاضة عام 2010 التي ولج معها الي رئاسة الحكومة ومنها الي مقعد الرياسة. ومضي اطمبايف ليقول انه لا ينتوي القيام بثورة ثالثة، في الوقت الذي زج فيه بأحد رفاق ثورة 2010 عمر بك تقي بايف الي غياهب سجون قيرغيزستان لاتهامات بالفساد. وبعيدا عن خلافات الداخل، وما يقال حول تحركات منظمات المجتمع المدني، تناول الرئيسان في مؤتمرهما الصحفي مستقبل العلاقات بين بلديهما ووضعية القاعدة العسكرية الروسية في قيرغيزستان، والتي قال بوتين انه لا ينوي توسيعها معربا عن استعداد بلاده لإنهاء وجودها مع اول طلب رسمي من جانب بيشكيك. ولم يكن بوتين ليفعل الإشارة الي ما تتحمله موسكو في المقابل من اعباء لمساعدة قيرغيزستان وحمايتها من اخطار التدخل الخارجي وتهريب الأسلحة والمخدرات من أفغانستان المجاورة. قال ان المساعدات التي قدمتها موسكو بلغت ما يزيد عن المليار دولار، فضلا عن معونات مادية اخري قدمتها في إطار إعداد قيرغيزستان للانضمام الي الاتحاد الاورواسيوي. وكان بوتين وفِي معرض حديثه عما قدمته روسيا من معونات لقيرغيزستان، وفِي إطار تعليقه ردا علي سؤال بشأن التوتر القائم اليوم في علاقاته مع نظيره ألكسندر لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا قال ان المعونات والقروض التي قدمتها روسيا الي بيلاروسيا بلغت ما يزيد عن ستة مليارات دولار، الي جانب ما تحصل عليه من نفط خام بالمجان تقوم لاحقا بتصديره الي الخارج.

وتبقي الإشارة الي ان جولة بوتين في اسيا الوسطي لم تشمل احدي اهم بلدانها وهي أوزبكستان التي اختارت في نهاية العام الماضي رئيسها الجديد، بعد رحيل زعيمها التاريخي اسلام كريموف، وهو ما قد يحمل في طياته الكثير من التساؤلات .

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com