محنة الديموقراطية: ترامب نموذجاً
محنة الديموقراطية: ترامب نموذجاًمحنة الديموقراطية: ترامب نموذجاً

محنة الديموقراطية: ترامب نموذجاً

عبدالحميد الأنصاري

لا جدال في أفضلية الديموقراطية، نظاماً سياسياً يضمن انتقالاً سلمياً سلساً للسلطة، ويجنب المجتمع صراعات دموية وانقلابات عسكرية وصولاً إلى السلطة، مما يتيح تحقيق التقدم والازدهار، ويسمح بأجواء الحريات المنشطة للطاقات والإبداعات.. لكن الديموقراطية، مهما راهنا عليها كأداة للنهوض ولحل الأزمات السياسية، ومهما تغنينا بها وناضلنا من أجلها، فإنها: أولاً، ليست حلاً سحرياً جاهزاً لمعالجة أوضاعنا المضطربة، فهي قبل أن تكون نظاماً سياسياً، هي أيضاً مجموعة قيم إنسانية ينبغي غرسها في التربة المجتمعية، لتغذي نبتة الديموقراطية التي يراد غرسها، أملاً في أن تنمو وتصبح شجرة مزدهرة ذات جذور ثابتة. وثانياً، فإن الديموقراطية، توليفة نظامية، تأتي كمحصلة دروس مستخلصة من تجارب طويلة على مر التاريخ البشري في أنماط الحكم. بمعنى أنها عمل بشري ناجح، لكن أعمال البشر مهما نجحت سيعتريها النقص والقصور والانحراف، بل والظلم والجهل والطغيان. ومن هنا يمكن للديموقراطية أن تقود إلى قرارات خاطئة بل كارثية، مما يحتم على المثقفين والمفكرين نقد الديموقراطية حين تضل فتشقى. في الماضي القريب، قادت الديموقراطية الألمان إلى انتخاب هتلر فقادهم إلى الدمار، وتسبب في أكبر حرب عالمية أودت بحياة ملايين البشر. وبالأمس قادت الديموقراطية البريطانيين لخيار الانفصال الخاطئ عن الاتحاد الأوروبي، لتقع حكومتهم في حيرة، لا تعرف سبيلاً يجنبها التكاليف الباهظة للخروج! واليوم يصدم العالم كله بالخيار الديموقراطي للناخبين الأميركيين في إيصال المرشح الجمهوري ترامب إلى البيت الأبيض، شخص كل خبرته في جمع المال، لا شأن له بالشؤون السياسية والدولية، سليط اللسان، سريع الانفعال، كثير الاتهام، ديماجوجي يحسن تهييج الجماهير.

وفي مقاله التحليلي الرائع، يشخص الدكتور محمد الرميحي، أزمة الديموقراطية الغربية في عاملين: أولهما التباطؤ الاقتصادي، الذي يرجع إلى سببين: شيخوخة الشعوب الغربية وافتقادها جيل الشباب، والتقدم الهائل في التقنية. أما ثاني العاملَين فهو تفاقم المشكلات الاجتماعية والثقافية. يوضح الرميحي حقيقة الأزمة الراهنة للديموقراطيات الغربية فيقول: ما يطرح للجمهور من قضايا مثل الهجرة، وأن البطالة التي تواجهها الطبقة الوسطى والعاملة، هي بسبب تلك الهجرة، أو هروب الصناعات إلى الخارج، أو وجود الملونين من ذوي البشرة الداكنة.. كلها شعارات يمكن أن تحشد الجمهور غير المطلع وغير الواعي، لكنها ليست الأسباب الحقيقية للمشكلات. أزمة الديموقراطية الغربية أنها لم تستطع مواجهة شعوبها بحقيقة شيخوخة المجتمع، وأن تلك هي المشكلة وليس الضيوف أو العمالة الوافدة.

تلك نظرة عالم الاجتماع السياسي، أما نظرة العالم والمحلل السياسي، الدكتور وحيد عبدالمجيد، فتذهب أبعد من ذلك في تشخيصها لأزمة الديموقراطيات المعاصرة، إذ يرى الدكتور وحيد أن الأزمة أعمق مما يبدو ظاهراً، فهي تعود إلى حصول اختلالات داخلية تراكمت بسبب جمود يصيب النظام الديموقراطي في بعض المراحل ويضعف قدرته على معالجة الأزمات، وذلك عندما تضعف ديناميته، فيفقد أهم ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية، أي قدرته على تصحيح أخطائه. وفي هذه الحالة تصاب الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية بالعجز عن تجديد خطاباتها التي صارت متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة التي تخلق حيوية في المجتمع، وبالتالي تعجز عن ضخ دماء جديدة، مما يؤدي إلى إعادة تدوير نخب محدودة في مستوياتها القيادية، فتتراجع معدلات المشاركة السياسية، فيستغل القوميون المتطرفون مناخ الفراغ، ليصبحوا أكثر قدرة وتأثيراً وشعبيةً.

أخيراً: ليس الهدف، هنا، الانتقاص من النظام الديموقراطي أو تشويهه أو التقليل من أهميته وضرورته، فلا زال النظام الديموقراطي، عبر دول العالم، هو الأقل سوءاً، لكن الهدف هو التنبيه إلى أوجه القصور والنقص والانحراف التي تنتابه من حين إلى آخر بسبب العوامل المذكورة، ومن ثم ينبغي السعي والمطالبة بتصحيحها، وذلك لا يكون إلا بمزيد من الشفافية الديموقراطية، والوعي السياسي الرشيد، والإعلام البصير.. فأخطاء الديموقراطية لا تعالج إلا بمزيد من الديموقراطية.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com