«الربيع العربي» بدأ في تونس... وانتهى فيها
«الربيع العربي» بدأ في تونس... وانتهى فيها«الربيع العربي» بدأ في تونس... وانتهى فيها

«الربيع العربي» بدأ في تونس... وانتهى فيها

خير الله خير الله

انتهى «الربيع العربي» حيث بدأ. بدأ في تونس، ويبدو انّه انتهى في تونس. لا حاجة الى تعقيد الامور اكثر من اللازم. تونس ليست في وضع افضل مما كانت عليه عندما كانت في عهد زين العابدين بن علي الذي فقد في السنوات التي سبقت اضطراره الى التخلي عن السلطة القدرة على معرفة نبض الشارع من جهة وعمق النقمة على تحول زوجته، ليلى طرابلسي، وافراد عائلتها الى ما يشبه العائلة الحاكمة والمتحكمة بجزء كبير من اقتصاد البلد من جهة اخرى.

اين فشلت «ثورة الياسمين»؟ فشلت على ارض الواقع في حين نجحت نظرياً، خصوصاً عندما اطلقت الحريات العامة، ولكن من دون ضوابط، واقرّ المواطنون دستوراً حديثاً بكلّ معنى الكلمة لم يتضمن أي تنازلات تذكر للاخوان المسلمين الذين كانوا يطمحون الى إقامة نظام جديد على قياسهم.

يتبين كلّ يوم ان القوانين الحديثة والمتطورة شيء، فيما يبقى التطبيق شيئا آخر. يمكن الاتيان بأفضل القوانين في العالم وأكثرها حداثة، لكن مشكلة بلد ما لا يمكن ان تحل من دون وجود الأجواء التي تسمح بالاستفادة من هذه القوانين ومن دستور حديث لا يعني وجوده او عدم وجوده شيئا للمواطن العادي الباحث عن لقمة العيش اوّلا.

فشلت «ثورة الياسمين» على ارض الواقع نظرا الى انّها لم تحافظ على أي من المقومات التي ميّزت تونس منذ الاستقلال ان على صعيد ضمان الأمن للمواطن العادي او على صعيد تحقيق تقدّم في المجال الاقتصادي... او في مجال المستوى التعليمي والمحافظة على حقوق المرأة وعلى نمط معين للحياة في المجتمع. كلّ ما هناك ان الاخوان المسلمين في تونس الذين يدعون الآن انّهم مع الدولة المدنية ما زالوا ينتظرون الفرصة المناسبة للانقضاض على السلطة اما مباشرة وامّا بطريقة غير مباشرة وذلك في ظل التدهور الذي يضرب كل القطاعات بدءا بالمجتمع ومستوى الرقيّ فيه على كلّ صعيد، خصوصا لجهة العادات اليومية والملبس والتصرف في الاماكن العامة...

يعرف الاخوان المسلمون، الذين يسمون أنفسهم «النهضة» ان الوقت لم يحن بعد لتسيير أمور البلاد على نحو مباشر. الاهمّ من ذلك ان زعيمهم راشد الغنّوشي يدرك انه ليست لديه حلول لأي من المشاكل المطروحة، لا على الصعيد السياسي ولا على الصعيد الاجتماعي او الاقتصادي او الأمني. لماذا، اذا، الغرق في مشاكل تونس التي لا حلول لها في المدى المنظور في حين يمكن الاكتفاء بالاستفادة مما يمكن ان توفّره السلطة من مكاسب على كلّ المستويات، وإلقاء مسؤولية أي فشل على الآخرين في الوقت ذاته؟

يبدو ان إلقاء المسؤولية على الآخر، خصوصا على «نداء تونس» ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، في أساس استراتيجية «النهضة» التي بات في استطاعتها استغلال الحال السائدة في البلد كي تتابع عملية التسلل الى المجتمع خطوة خطوة بهدف ترويضه وتغيير تطلعاته. هناك ثروة في تونس اسمها ثروة الانسان. هذه الثروة مكنت التونسيين من تطوير بلدهم في ظروف مختلفة وصعبة معتمدين قبل أي شيء على مجتمع منفتح وعلى برامج تعليمية متطورة اهلتهم ليكونوا على تماس مع ما يدور في العالم المتحضر، خصوصا في أوروبا.

ليس صدفة ان اعلان يوسف الشاهد عن أسماء أعضاء حكومته الجديدة ترافق مع مطالبة «الرابطة التونسية» الحائزة جائزة نوبل للسلام بإلغاء اتفاق يبيح للواعظ والامام العمل في المراكز المتخصصة برعاية الطبقات المهمّشة. هذا الطلب الذي تقدمت به هذه المجموعة يكشف مخططات «النهضة» والتنظيمات المتطرفة التي نشأت في كنفها. الهدف بكل بساطة نقل التونسيين من متعلقين بثقافة الحياة الى عالم الارتباط بثقافة الموت والبؤس.

في عهد حكومتي «النهضة»، أي عهد حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض، اغتيل سياسيان تونسيان معاديان للتطرف الديني بكل اشكاله. اغتيل شكري بلعيد، وكان العريض وزيرا للداخلية واغتيل بعد ذلك محمّد براهمي. اين نتائج التحقيق، علما انّ الجهات التي غطت الاغتيالين معروفة؟

ساءت الامور في مرحلة ما بعد «ثورة الياسمين» الى ابعد حدود. من حسنات زين العابدين بن علي انّه حافظ على بعض من ارث الحبيب بورقيبة باني الدولة الحديثة في تونس. كان يكره بورقيبة لاسباب ذات طابع شخصي مرتبطة بعجزه عن فرض هيبته من دون اللجوء الى القمع، او الى الاستعانة بشخصيات ضعيفة لا تعرف من قاموس السياسة والتعامل مع رئيس الدولة غير كلمة واحدة هي كلمة «نعم». يروي زميل لي مقيم حاليا في تونس ان كلّ شيء صار أسوأ في تونس. الاقتصاد أسوأ، الأمن أسوأ، الأداء السياسي أسوأ. ولكن أسوأ ما في الامور ان التونسي لم يعد يحبّ العمل. انّه يتوقع من الدولة ان تأتي اليه براتبه الشهري من دون ان يكون مستعداً لبذل أي جهد في المجال الوظيفي. يقول هذا الزميل ان عمال التنظيفات اضربوا من اجل تحويلهم الى موظفين مثبتين بعدما كانوا مجرد مياومين. عندما كان هؤلاء مياومين كانوا يقومون بالمطلوب منهم. عندما اصبحوا مثبتين صاروا يكتفون بقبض مرتبهم من دون وجود من يحاسبهم او من يجبرهم على أداء المطلوب منهم. يضيف هذا الزميل انّ الأمن كان سائداً في عهد بن علي. صحيح ان الشرطي كان يرتشي، لكنه كان يؤدي مهمته في مجال المحافظة. كان الامن هو القاعدة والرشوة هي الاستثناء. الآن، صار الشرطي يرتشي فقط... امّا تأمين الامن للمواطن فهو آخر همومه!

هناك انسداد كامل في تونس على كلّ المستويات، خصوصا في ظلّ وجود رئيس للجمهورية هو الباجي قائد السبسي اقترب من التسعين من العمر. لن يملأ الفراغ الناجم عن غياب الشخصية المحورية في البلد أي دستور من ايّ نوع كان، مهما كان عصريا. في النهاية لا مفرّ من التساؤل كم عدد المستثمرين الاجانب في تونس منذ «ثورة الياسمين»؟ كم عدد فرص العمل التي خلقتها «الثورة»؟ كم ارتفع المستوى التعليمي؟ كم زادت مساحة الأراضي المخصصة للزراعة؟ كم زاد عدد السيّاح؟ ماذا عن الصناعات التحويلية التي كانت عماد الاقتصاد التونسي والقطاع الاكبر فيه قبل السياحة والزراعة؟ سيل الأسئلة لا يتوقف عند حدّ معيّن. في عهد بن علي، افتقدت تونس بورقيبة. في عهد «نداء تونس» و«النهضة»، تفتقد تونس بن علي. هذا امر مؤسف. كيف يمكن لبلد فيه كل هذه الحضارة، بدءا بجامعة الزيتونة، التي تعتبر من اقدم الجامعات في العالم، وثمة من يقول اقدمها، ان يشهد مثل هذه التحولات التي يشهدها الآن؟

لم يعد اسم تونس مرتبطاً سوى بالفساد والمحاصصة السياسية وما يعتبر اخطر من ذلك كلّه، أي تدهور المجتمع في ظل التطرف والارهاب.

هل نقول وداعا لتونس... ام لا تزال فيها نواة صالحة قادرة على مواجهة التخلف انطلاقا من ارث بورقيبة ودولة المؤسسات التي بناها والتي ساهمت في جعل المجتمع يتصدى للمحاولات المستمرّة للاخوان المسلمين من أجل إخضاعه؟

الراي

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com