زيدان بين التصحر والتوحُّد
زيدان بين التصحر والتوحُّدزيدان بين التصحر والتوحُّد

زيدان بين التصحر والتوحُّد

رضوان السيد

سمعتُ الروائي المصري المعروف يوسف القعيد على قناة «العربية» يُدينُ ما ذهب إليه الدكتور يوسف زيدان من تنظيرات غريبة لقحل الصحراء وجدبها وتأثيراتها السلبية على الإنسان والعمران. وزيدان ليس مؤرخاً ولا أنثروبولوجياً، بل يحمل درجة دكتوراه في الفلسفة الإسلامية في موضوع التصوف ومحيي الدين بن عربي. وما اشتهر في تخصصه، بل اشتهر بعمله في مكتبة الإسكندرية مسؤولاً عن قسم المخطوطات. ثم اشتهر بكتابة عدة روايات حظيت باعتراف في الأوساط الأدبية.

تعرفْتُ على زيدان قبل قرابة العقد ونصف العقد. كان يدعوني إلى المؤتمرات السنوية التي يقيمها لمسائل تتعلق بالتراث العربي المخطوط. وعندما قابلتُه لأول مرة كان قد حصل حديثاً على جائرة الكويت للتقدم العلمي، عن نشرته ذات المجلدات العشرة لكتاب ابن النفيس في الطب(!). ورأيتُه لآخِر مرة في أبوظبي عندما كان الاحتفاءُ به جارياً على قدم وساق بسبب إحدى رواياته. ولستُ أقصِد من وراء ذكر هذه الوقائع إثبات «خيانته» للخليج وصحاريه، ولا أن علاقتي به كانت مضطربة. فقد كانت علاقتي به حسنة، وهو الذي نصح مدير المكتبة بتعييني في مجلس إدارة المخطوطات فيها، وقد كتب مقالة في الكتاب التذكاري الذي أصدره الزملاء لتكريمي بمناسبة بلوغي الستين.

إنني أذكر هذه الوقائع، لما لاحظتُهُ عنده من ميلٍ إلى الغريب في الفكر والسلوك، باعتبار ذلك تجديداً أو إبداعاً! وهو يميل في ذلك إلى المبالغة والأبيض والأسود. وقد فعل ذلك في «عزازيل»، روايته الثانية، عندما اعتبر الوثنية المصرية المتهلينة عَلَماً على التنوير والحرية، واعتبر الديانة المسيحية الظاهرة في مصر في القرنين الثالث والرابع للميلاد عَلَماً على التخلف والرجعية. وفعل الشيء نفسه في كتابه «اللاهوت العربي» بالنسبة إلى الإسلام. وكتبتُ له ملاحظات كثيرة في حواشي الكتب وهوامشها، فكان يقول لي ضاحكاً: «إنّ الكنيسة المصرية ظلامية، وإن الإسلام المصري أفسدتْه الأصوليات الجديدة الظلامية أيضاً والعنيفة». إنما مع حركة 25 يناير 2011 لاحظتُ أنه يطمح إلى الحلول محل إسماعيل سراج الدين في إدارة المكتبة، وهو يتوسل لذلك بإثارة الموظفين من السلفيين و«الإخوان»، باعتبار أنّ مدير المكتبة من أتباع نظام مبارك! وقلت له: «طموحك مشروع، لكن سراج الدين هو الذي أخذ بيدك وكبّرك، ثم طوال السنوات الماضية كنتَ تقول إنّ هؤلاء الأصوليين أفسدوا إسلامَ مصر المعتدل، وفكرة المكتبة نفسها مُعادية لتوجهات هؤلاء وأولئك فكيف تتوسّلُ بهم؟!».

أمّا الصحراء العربية وفقرها الثقافي والإنساني فلها بمصر ثلاثة جذور أو جذوع: الجذع الحضاري، وإلى مَنْ تنتمي مصر إلى البحر أم إلى الصحراء، والجذع الإسلامي، وأيُّ إسلام ينبغي أن يسود بمصر وبالعالم انطلاقاً من مصر وليس وروداً إليها. والجذع الثالث، وهو الزعامة القومية، ومن ينبغي أن يقود العرب. ولكلٍ من نزعات أو نزغات الخصوصية المصرية رمز أو أكثر. فالجذع الحضاري رموزه توفيق الحكيم وحسين فوزي وأحمد لطفي السيد وعبدالرحمن بدوي.. إلخ. والجذع الإسلامي رموزه كثر ومن أواخرهم الشيخ محمد الغزالي صاحب «أهل الفقه وأهل الحديث». أما الجذع القومي فرمزه الأكبر في العقود الأخيرة محمد حسنين هيكل، والذي بلغ من كراهيته للخليج والسعودية أنه كان مستعداً للقول بالتحالف بين إيران وإسرائيل ومصر ضد «أعرابية السعودية» والخليج!.

إنّ المشكلة لدى النخبة الثقافية المصرية أنها ليست مستعدةً لتقبل فكرة وجود تيارات متعددة في الدين والفكر والثقافة، كلّها مصرية. فخصوصية مصر الخالدة أنه لا خلافَ فيها، وأنها بمثابة الكرة الفولاذية المصمتة، وأنّ كلَّ اختلاف يعني انشقاقاً في الدين والقومية والوطنية. ومع هذه الوحدانية أو التوحد الشديد، تأتي الإحساسات بالتفوق من جهة، واستهداف مصر بكل سبيل من جهةٍ أُخرى.

يوسف زيدان لا ينتمي إلى أحد هذه التيارات أو هذه الجذوع. فأصوله الثقافية الدانية القطوف، لا تسمح له بذلك. إنه يبحث دائماً عن الإغراب والشهرة، وإثارة الكلام من حوله. لكنّ التأزم الهائل الذي يفجّر العالم العربي له جانبه المصري، ويكون علينا نحن المأزومين والمتأزمين على اختلاف الدرجة، أن نصبر على مصر ومع مصر مهما كلف ذلك من غمٍ وهمٍّ.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com