سقطت «تركيا القديمة» فماذا عن سياسة أردوغان؟
سقطت «تركيا القديمة» فماذا عن سياسة أردوغان؟سقطت «تركيا القديمة» فماذا عن سياسة أردوغان؟

سقطت «تركيا القديمة» فماذا عن سياسة أردوغان؟

جورج سمعان

بين ليلة وضحاها حصد الرئيس رجب طيب أردوغان ما لم يكن يحلم به. التف الشعب والقوى السياسية المختلفة حول نظام الحكم. وقف الأتراك بمختلف أحزابهم وقواهم المدنية خلف الدولة المدنية. ثقافة جديدة ترفض عودة العسكر إلى السلطة. وتنذر بنهاية «الدولة القديمة» كما عبر الزعيم التركي ورئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو. ودان المجتمع الدولي المحاولة الفاشلة، وأبدى دعمه الحكومة المنتخبة ديموقراطياً. وأثبت الأتراك تمسكهم بالدولة المدنية. إنها فرصة ثمينة ونادرة يمكن «حزب العدالة والتنمية» استغلالها لاستكمال صورة الهوية الجديدة للبلاد. ويمكنه بعد اليوم الاعتماد على قاعدة شعبية لا غبار على حيويتها وقدرتها على المواجهة. لم تعد الكلمة للجيش الذي أسس الجمهورية وظل راعياً علمانيتها مُذ أعلنها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923. معركة ليل الجمعة - السبت حسمت النزال بالضربة القاضية هذه المرة. فقد سعى حزب العدالة، طوال السنوات الأربع عشرة الماضية، إلى تغيير هوية الجمهورية. وواجه عقبات وصعوبات وتهديدات في طريق دفن البيروقراطية العسكرية وإلغاء هيمنتها على مؤسسات الحكم. وأدخل تعديلات دستورية وقانونية وقضائية. ومهما قيل عن «مصادرة» كثير من المؤسسات لحساب الرئيس، إلا أن هذه الإجراءات عززت الحكم المدني، ولكن بوجه إسلامي. وكان بعض هذه التعديلات جزءاً من الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي للبحث في عضوية تركيا. ويجب ألا ننسى أن الرئيس انتخبه الشعب مباشرة للمرة الأولى. وأثبت هؤلاء الناخبون أخيراً أنهم متمسكون بالعملية الديموقراطية ويرفضون العودة إلى عهد الوصاية العسكرية. وقد بدأ الرئيس فعلاً باستغلال هذه الفرصة باستكمال تغيير تركيبة القضاء، بعد الإعلام وغيره من مؤسسات وهيئات. فعُزل خمسة من أعضاء مجلس المحكمة العليا. وأُقيل حوالى 2700 قاضٍ. واعتقل عشرة من المحكمة الإدارية ويُطارَد 140 آخرون من محكمة التمييز. وطاولت الموسى قيادات عسكرية وأخرى مدنية تحت شعار مواصلة الحملة على المتهم الأول، في نظر الحزب الحاكم، الداعية فتح الله غولن.

كان الرئيس أردوغان يمر في حال ضعف. جلبت له سياسته ومواقفه الخارجية وتصريحاته الاستفزازية والمتضاربة أعداء كثراً، وخصومات حتى مع أقرب الشركاء، من أوروبا إلى الولايات المتحدة. وقد دفعه الحصار الذي ضرب عليه إلى انعطافة درامية اضطر فيها إلى تقديم تنازلات إلى روسيا وإسرائيل، وإلى مغازلة النظامين المصري والسوري بعدما قال فيهما ما لم يقله مالك في الخمر. وتعرض لسيل من الانتقادات في الداخل بسبب تفرده في اتخاذ القرارات وآخرها إعلان استعداده لتجنيس اللاجئين السوريين. وهو ما أثار حفيظة الشارع التركي وقوى سياسية وعسكرية. وكذلك بسبب نزعته إلى الاستئثار بالحكم وتحويل النظام رئاسياً بالممارسة بعيداً من تعديل الدستور، ما دام التعديل متعذراً لحاجة الحزب الحاكم إلى أكثرية برلمانية ليست متوافرة. وانتهى به الأمر إلى تضييق الخناق على شركائه في تأسيس الحزب وقيادته في أصعب الظروف حتى أخرجهم من الصورة نهائياً. وكان يأمل بأن يوفر له فك عزلة بلاده خارجياً وقوداً يعينه على مواجهة متاعبه الداخلية، خصوصاً في الحرب الدائرة مع حزب العمال الكردستاني وصعود نجم الكرد، أميركياً وروسياً، في كل من سورية والعراق.

ولعل أشد ما كان يقلق الرئيس أردوغان في السنة الأخيرة عودته إلى المؤسسة العسكرية طلباً لدعمها في قتال حزب العمال شرق البلاد. فهو في صراعه معها طوال عقدين، نجح إلى حد كبير في إعادة العسكر إلى الثكن. وعدل الدستور بما سمح له بسوق جنرالات إلى المحاكم المدنية وصولاً إلى السجن. ودفع قبل سنوات قادة الجيوش والأركان إلى الاستقالة. ورسخ في نظر الغرب فكرة الحكم المدني، خصوصاً عندما أبرم اتفاقه مع عبدالله أوجلان، على رغم اعتراض القوميين المتشددين. لكن الأحداث في سورية والعراق والعقبات السياسية والاقتصادية التي واجهته في الداخل، خصوصاً في المواجهة المفتوحة مع الكرد، أعادته خطوة إلى الوراء. فسنّ قانوناً لا يسمح بمحاكمة الجند المشاركين في الحرب أمام المحاكم المدنية، بل يساقون إلى محاكم عسكرية. هذه العودة ربما كانت وراء شعور شريحة من العسكر بوجوب استعادة ما كان لهم من دور تاريخي محفوظ في الحكم وإدارة البلاد، واستعادة شيء من «كرامة مهدورة» وامتيازات مسلوبة. مستغلين فرصة هذا الحصار المضروب على زعيم البلاد. فضلاً عن أسباب أخرى، بينها ما عبر عنه بيان الانقلابيين الذين أخذوا على الحكومة إضرارها بالديموقراطية والعلمانية، إرث أتاتورك. وبينها أيضاً اهتزاز الأوضاع الأمنية في البلاد. فكثيرون يعتقدون بأن الزعيم التركي يدفع ثمن مواقفه المتهاونة مع الحركات الإرهابية التي عاثت فساداً في سورية والعراق. وأن الوحش الذي سهر على رعايته وتربيته يرتد عليه اليوم بعد العمليات الإرهابية التي شهدتها تركيا أخيراً. كل هذه العوامل كانت تشكل مصدر تململ في صفوف قيادات وقطعات عسكرية. ولم يكن الزعيم التركي غافلاً عن ذلك. وتردد أنه عندما سئل قبل مدة عن احتمال قيام انقلاب عسكري، أجاب أن هذا العمل لن يكون سهلاً وسيقاومه. ونجح عبر نداءاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تأليب الجمهور للوقوف في وجه الانقلابيين.

سيخرج الرئيس أردوغان قوياً بعد المحاولة الانقلابية. لكن ذلك لن يخفي ما أصابه من جروح. ورد الفضل إليه وإلى حزبه وحدهما في إحباطها فيه شيء من تجاهل واقع «تركيا الجديدة». فالأحزاب والقوى السياسية، وحتى تلك التي كانت تسلم بدورر الجيش، وقفت ضد الاعتداء على الحكم الديموقراطي. وقاومت عودة العسكر، متجاوزة خلافاتها مع الحزب الحاكم. كما أن قيادات في الجيش والشرطة رفضت الانجرار وراء الانقلابيين. وهو ما رسخ روح الانضباط في هاتين المؤسستين، والرضوخ نهائياً لإرادة السلطات السياسية التي يفترض أنها وليدة انتخابات شعبية. وسيقدم ذلك في أوساط الاتحاد الأوروبي صورة واقعية عن ثقافة تركية جديدة، وإن كانت فكرة الانقلاب التي راودت بعض العسكريين ذكرت بأن هذا البلد لا يزال يسعى إلى الخروج من دائرة العالم الثالث. فالاتحاد كان ولا يزال يلح في مناقشة عضوية تركيا على جملة من الإجراءات تستدعيها العضوية تتعلق بالديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والحريات والفصل بين السلطات وإصلاح الاقتصاد وتحديث القوانين وتداول الحكم... كما أن هذا الالتفاف حول الحكم سيرتب على رئيس الجمهورية أن يعيد النظر في حساباته وعلاقاته مع أطياف المعارضة. فما هو الثمن الذي سيقدمه؟ وكيف سيوفر محاكمة عادلة للمعتقلين؟

ولا شك في أن الإجماع الدولي والإقليمي على إدانة المحاولة الفاشلة، يؤكد أهتمام هذا المجتمع باستقرار تركيا في منطقة تأكلها النار من أطرافها الأربعة. فلا أحد يرغب في رؤية هذا البلد يغرق في حرب أهلية ستفاقم الفوضى في الإقليم وتهدد السلم العالمي. فالجميع يدرك أهمية دور أنقرة في الحرب الدائرة على الإرهاب. كما أن أميركا وأوروبا اللتين تعولان على هذا الركن الأساس في حلف شمال الأطلسي لا يسرهما انشقاق الجيش التركي مثلاً وغرقه مجدداً في صراعات ميدانية وسياسية، فيما الحلف يخوض صراعاً مريراً مع روسيا التي تغطي ضعفها في المواجهة بسياسات ومغامرات عسكرية من أوكرانيا إلى سورية، أعادت إحياء الحرب الباردة. وتمثل أنقرة، على رغم ما بينها وبين واشنطن، حليفاً استراتيجياً للغرب عموماً. وأي تهديد لاستقرارها سيترك آثاره العميقة على الاتحاد الأوروبي ومجمل القارة التي تواجه أخطاراً وتحديات مصيرية، على رأسها اليوم إرهاب عابر للقارات يجهد لبعث حرب كونية بين الشرق والغرب! فضلاً عن تخبطها في ضبط موجات اللاجئين وما ذرت من خلافات بين دولها، وما أحيت من حركات يمينية متطرفة. إلى ارتباكها في مواجهة خروج بريطانيا من الاتحاد وتداعيات ذلك على أعضاء آخرين...

أثبت الرئيس أردوغان أن له ولحزبه شعبية لا يستهان بها كان ترجمها في الانتخابات التي أجريت أواخر السنة الماضية، وجددها في إحباط المحاولة الانقلابية. لكن ذلك يجب ألا يغيّب دور المجتمع المدني وسائر الأحزاب والقوى السياسية على اختلافها وتمسكها بالحكم المدني أياً كان القائم على رأس السلطة ومهما بلغت الخلافات معه. اجتاز حزب العدالة ومعه الشعب التركي وجيرانه وكذلك أوروبا امتحاناً قاسياً. يبقى السؤال عن العلاقة بين أنقرة وواشنطن بعد اتهام حكومة بن علي يلدريم الداعية غولن أنه وراء المحاولة، ومطالبتها الولايات المتحدة بتسليمه إليها وإلا اعتبرت دولة معادية! هل تصل العلاقة بين الطرفين إلى قعر جديد أم إن موقف حزب العدالة للاستهلاك المحلي ومقدمة للقضاء نهائياً على مواقع الداعية المقيم في أميركا؟ علماً أن أسئلة كثيرة طرحت حيال صمت الإدارة واكتفائها بمراقبة الوضع في الساعات الأولى للمحاولة الفاشلة. في حين كان عليها تلقائياً أن تكون أول من يعبر عن رفضها أي تدخل للعسكر في قضاء على حكم وصل بأصوات الشعب!

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com