دم ومتاهة في عاصمة السلطنة
دم ومتاهة في عاصمة السلطنةدم ومتاهة في عاصمة السلطنة

دم ومتاهة في عاصمة السلطنة

بيسان الشيخ

كشفت التفجيرات الإرهابية الأخيرة في مطار أتاتورك، تخبطاً في السياسات الخارجية التركية وما يمكن أن تحمله انعطافات سريعة وغير محسوبة كالتي أقدم عليها الرئيس رجب طيب اردوغان حيال كل من روسيا وإسرائيل، ولكن أيضاً وربما الأهم كشفت حجم التناقضات التي تعيشها الساحة الداخلية التركية، وما يمكن أن تؤتيه من ثمار مدمرة على كل الصعد.

ذاك أن الاعتداء على المطار في رمزيته، يدفع بالعنف الى حالة قصوى تتخطى ما أحدثته التفجيرات السابقة التي تعرضت لها إسطنبول تحديداً، ومدن أخرى أيضاً أولاها أنقرة. فعاصمة الجمهورية التركية شهدت قبل فترة وجيزة تفجيراً أضخم من التفجيرات التي عرفتها «عاصمة السلطنة»، وحصد عدداً مضاعفاً من الضحايا، لكنه طوي من دون أن تنكشف خيوطه أو يتم توجيه اتهام رسمي وصريح لـ «داعش» كما حصل بالأمس. فالاعتداء الإرهابي الذي أودى بحياة أكثر من 100 شخص أحيل الى «كوكتيل من المتطرفين»، في شبه تبرئة لطرف، واتهام كامل لآخر. ولا حاجة لطول شرح حول ما يعنيه «التطرف» في عرف أردوغان، والذي يتلخص في الانفصاليين الأكراد وحزب العمال الكردستاني. علماً أن الأخير ينفذ هجمات دقيقة وضد مرافق رسمية وحكومية، وبنسق مختلف جداً عن نسق «داعش» الذي يستهدف المدنيين أولاً.

والى ذلك، فإن مدناً تركية أخرى ربما أكثر هامشية في المشهد الدولي، ولكن ذات دلالات محلية تشهد في شكل دوري تفجيرات ومواجهات مسلحة وتصفيات جسدية يفرض عليها الكتمان والتعتيم الإعلامي، وتبقى بدورها من دون محاسبة ولا إعلان صريح عن الجهة المنفذة وإن كانت معروفة محلياً وتحمل بصمات واضحة لـ «داعش».

وإذ تعاملت السلطات التركية مع مدن مثل أورفا وغازي عنتاب وانطاكية وغيرها من بوابات العبور الى سورية ومنها، كحديقة خلفية لتصفية حسابات «بين السوريين» وربما معهم، بات واضحاً اليوم ان إعادة المارد الى القمقم مهمة مستحيلة. فلا يمر شهر على ذلك الشريط الحدودي من المدن والبلدات من دون «اختراق أمني» ما، يأخذ شكل طعنات سكين، أو تفجير، أو اغتيال بكاتم الصوت أو الذبح المباشر والصريح لناشطين ضد «داعش»، لكنها تبقى كلها في خانة الحالات الفردية ولا تسجل تحت خانة الإرهاب الذي يعلم الجميع انه متنام ويحظى بغض طرف.

وعليه، فإن التفجيرات الأخيرة في مطار أتاتورك لم تأت من عدم. لا بل ثمة سلسلة من الحوادث الكبيرة والصغيرة التي عبدت الطريق إليها، آخرها ربما الحرب المعلنة على «داعش» التي التحق بها اردوغان متعجلاً، والتحالف مع روسيا الذي قد يكون أغضب «المعسكر الشيشاني» في التنظيم، فارتأى الانتقام لنفسه، ولكن أيضاً وجود أرضية محلية لها.

وعلى ما يبدو، فإن الوهم بجدوى «تحالف مصالح» مع التطرف أكثر جذباً وإغراء مما هو متوقع. ذاك أن تسهيل عبور مقاتلين أجانب الى سورية، وتقديمه بصفته نصرة للمظلومين وضرورة ظرفية لإسقاط نظام بشار الاسد، واعتبار أن الضرر سيبقى محدوداً ومضبوطاً، لا يمكن أن تأتي من دون أثمان باهظة.

وسبق لتجارب كثيرة ومتكررة أن أثبتت كارثيتها في هذا المجال، لكن يبدو أن أحداً ليس راغباً في استقاء العبر وتفادي خوض التجربة الذاتية. ويكفي النظر الى تحالف واشنطن مع «طالبان» ضد السوفيات، وتعقب أمثلة كثيرة لتحالفات مشابهة وحديثة، للتوصل الى خلاصة أن ولاء المتطرفين واحد، ولا يمكن مقاسمتهم فيه ولا الاستعانة بهم ثم صرفهم من دون تعويض نهاية خدمة غالباً ما يأتي بمفعول رجعي هائل.

وإذ أطلق تفجير أنقرة اليد ضد «الإرهاب المحلي» أي الأكراد، وضع تفجير إسطنبول تركيا على سكة محاربة «الإرهاب الدولي» أي «داعش» من دون أن يكون واضحاً بعد شكل التعاون المرتقب في محاربة التنظيم المتطرف داخل الأراضي السورية مثلاً. فهل يتحالف الجيش التركي مع خصمه الكردي ضد عدو خارجي أم يقوي فصيلاً سورياً يقوم بالمهمة على أرضه وينصرف هو الى معركة داخلية باتت تأخذ أكثر من شكل.

فيكفي أن يستطلع المراقب عدداً من التحديات الهائلة التي تواجه اردوغان اليـــوم، وتركيا من خلفه، والتي يبدو انه لا يقيم لها حســـــاباً أو وزناً في غمرة النشوة بالسلطة والصلاحيات التي يعمل على احــتكارها بشتّى الوسائل والطرق، ليقدر حجم الأخطار المـــــحدقة بهذا البلد. فإلى المعارضات الداخلية المـــتنوعة والمتنــامية ضده، لم تمر اســـتقالة رئيس الوزراء داود أوغلو، والتي يبدو أنه دفع اليها دفعاً في ايار (مايو) الماضي، من دون تصدع داخلي أصاب حزب العدالة والتنمية، لا سيما أن هناك أكثر من مؤشر إلى إمكان تشكيل حزب أو تيار جديد.

فالحزب الذي قدم تجربة رائدة وناجحة الى حد بعيد عن «الإسلام السياسي» وكادت تركيا تصبح بفضله نموذجاً حقيقياً عن عدم تعارض حكم حزب ديني مع قيم الحداثة والديموقراطية، عاد وأسقطه اردوغان في اختبار قبول التعدد والاختلاف وعدم الجنوح نحو الميغالومانيا، والتسلط والاستعانة بالدين لتطويع البشر.

ويفترض أن يكون التيار الأردوغاني الخاسر الأكبر من هذا الانشقاق ولكن على المدى البعيد نسبياً. فميله المتوقع هو أن يجنح أكثر في التفرد بالسلطة، مستعيناً بتحالفه الأخير مع الجيش، ومستثمراً تفجير المطار في نوع من التعاضد الدخلي. لكن الرهان يبقى على ألا يخدمه ذلك لوقت طويل، لأنه الى كل ما سبق، فقد تسبب بجرح عميق في الكبرياء القومي التركي عندما اعتذر لروسيا عن إسقاط المروحية من جهة، وجرح «إسلامي» أعمق لتنصله من «فلوتيلا غزة» ومقايضة حصارها بمكتسبات مع اسرائيل من جهة أخرى. وذلك بدوره لن يمر بلا أثمان.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com