جاري
جاريجاري

جاري

سمير عطالله

لا أستطيع أن أحدد مكان، أو جهة، هذا الجار في الفندق. فالأصوات الآتية من تلفزيونه تبدو أحيانًا من الغرفة المجاورة، وأحيانًا من الطابق الأعلى، وأحيانًا من جميع الطوابق.

ولذلك، لم أستطع التقدم إلى الإدارة باسترحام لفت نظر، أو توسل لفت سمع. والأنكد، أن لا شيء يجمعني بالجار المجهول تحديد الإقامة، سوى اللغة. جميع برامجه عربية، وكلها غير ما اعتدت عليه.

مثلاً، أنا أكتفي من الصراخ العربي في نشرات الأخبار، وهو يفضله في المسلسلات، وخصوًصا «باب الحارة». وأنا معتاد على «العربية» وهو مدمن على «الجزيرة»، وخصوًصا أخبار مصر فيها، من الفجر إلى النشر.

وأنا أخفض صوت الجهاز عندي إلى درجة الحياء، وهو يرفعه لا أعرف إلى أي درجة. وأنا إذا تأخرت في النوم والنعاس والكرى وما بينها، فالحادية عشرة هي الحد الأقصى.

وأما هو فإذا بّكر فالثالثة هي الحد الأرحم. وأنا علّي أن أكتب وأن أقرأ وأن أنام، وهو ليس عليه سوى أن يستمع. وكذلك على كل من كان على مسافة 10 ميغاواط من جنابه.

ومن سوء حظي أنني لا أهتم بالرياضة ولا أعرف بشؤونها، فيما هو إما على مسلسل أو على مباراة. والمسلسل الذي يفضله مثل المباراة. صراخ وعذاب وندم كما غنت سيدتي أم كلثوم.

وقد سألني صديق حبيب، هل تحب أم كلثوم لأنها الأولى في الغناء، أم هو ذوق شخصي؟ وقلت له: أحبها لأنها الأخيرة.

ونقلت له قول جورج برنارد شو في موتسارت، وهو أن في الفن، ليس المهم أن تكون الرائد، بل أن تكون الخاتمة. المشهد الأخير الذي يهب له الجميع وقوفًا.

وأعتقد أن عظمة أم كلثوم وأهمية الرحابنة أنهم كانوا ختام مرحلة عبقرية مثل موال جميل، عندما ينتهي يبدو كل شيء بعده عاديًا. أطال الله في عمر فيروز.

كلما أصغيت إلى مسرحياتها أنتبه إلى الظلم الذي ألحقته بنفسها. فقد كان صوتها الغنائي طاغيًا إلى درجة أغفل الناس عن روعة حضورها المسرحي وأدائها وسحر الجرح في تمثيلها.

كانت الناس ­ وأنا منهم ­ ترى فيروز على المسرح، فلا تعود ترى سوى فيروز. لكن خلف فيروز الماسية ذهبية الشجن، كانت هناك فيروز الذهبية ماسية الأداء المفرح أو الحزين، أو الغاضب، أو الساخر، أوالمؤنب، أو حتى الغاوي.على قلة ما سمح لها زوجها عاصي، بالخروج من صورة النقاء المطلق، كأنما هي قمر لا بشر.

وأنا معي مسرحيات فيروز، وصوتها وحضورها وغناؤها إلى ستها التي في كحلون، وجاري غامرني بأصوات قبضايات «أولاد الحارة». وكلها عن بطولات سوريا في حرب الاستقلال، فيما سوريا اليوم مجموعة أمم تتقدمها براميل جوية من النوع الذي يعجب خاطر أوباما، لأنه خاٍل من الكيمياء: صاٍف نقي مثل زيت كسب.

أكتب هذا الكلام بعد الظهر ويدي ترتجف خوفًا. ففي أي لحظة سوف يفيق جاري وتفيق معه المباريات والمسلسلات وهتافات المانشستر يونايتد والمانشستر غير اليونايتد.

ورحم الله المعلق المصري الذي كان يهتف سعيًدا: «بلبل شاطها في دماغو. يا سلام يا بلبل. يا حلاوتك يا ابني».

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com