الإمارات وفقه استشراف المستقبل
الإمارات وفقه استشراف المستقبلالإمارات وفقه استشراف المستقبل

الإمارات وفقه استشراف المستقبل

عبد الحميد الأنصاري

أجيزت مؤخراً، بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، رسالة دكتوراه بعنوان «فقه التوقع: دراسة تأصيلية تطبيقية على القضايا المعاصرة»، مقدمة من الباحثة الإماراتية نجاة محمد عبدالله المرزوقي، أصّلت فيها فكر وفقه استشراف المستقبل بشواهد من القرآن الكريم ومن السنة العملية للرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن السياسات التي اتخذها الخلفاء الراشدون، رضوان الله تعالى عليهم، كما تناولت في رسالتها صوراً من الأحكام الفقهية المبنية على «البعد المستقبلي»، إضافة لبعض النماذج التطبيقية الشاملة لمختلف شؤون المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي قامت على مراعاة فقه التوقع والمآلات، والآخذة في الحسبان التداعيات والآثار والتحولات والتغيرات المستقبلية. وأوضحت الباحثة أن «فقه التوقع»، الذي عرفته بأنه «فقه يتميز ببعد النظرة، واستشراف العواقب، وتقدير مآلات الأمور، حتى يكون فعل المسلم موافقاً للشرع، ولا يعود عليه بالضرر في المآل»، منهج أصيل في الإسلام، وراسخ في التراث الإسلامي، وعمل به جميع الفقهاء، خاصة في المذهب الحنفي، إلى أن تبلور في نظرية متكاملة على يد الإمام الشاطبي المتوفى عام 1388 في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة»، الذي مثّل نقلة حاسمة لنظرية المقاصد الشرعية.

وتأتي هذه الرسالة المتميزة لتصحح تصورات ومفاهيم مغلوطة حول قصور العقلية العربية المسلمة عن استشراف المستقبل، وعجزها عن التخطيط الاستراتيجي، بسبب استغراقها في الماضي، وانشغالها بصراعاته السياسية والمذهبية، على حساب احتياجات الحاضر ومتطلبات المستقبل المتغيرة وتحدياته المتعددة. وتوضح الرسالة أن البعد المستقبلي كان حاضراً في الذهنية العربية المسلمة، دائماً، ولا أدل على انشغال المسلم بالمستقبل، من أنه وباستمرار يعمل لآخرته بالطاعات والصدقات، وينشغل بالتفكير في المصير الأخروي، وهو نوع من التفكير المستقبلي المستمر، طبقاً للقول المأثور «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».

وهذه الرسالة، بتأصيلها الشرعي للفقه المستقبلي، تأتي متناغمة مع التوجهات العامة لدولة الإمارات العربية المتحدة، في تبنيها للرؤية المستقبلية نهجاً استراتيجيا ثابتاً في السياسات والخطط والبرامج والمشاريع، وثقافة يتم ترسيخها في البنية المجتمعية، وقيمة أولية في سلم القيم العليا للمجتمع، تقوم مؤسسات الدولة بدعمها وتشجيعها والاحتفاء بها، وتنظيم مسابقات للأفكار الإبداعية والمنجزات المبتكرة، وتكريم المبدعين والمبتكرين وأصحاب الأفكار الخلاقة، وتبني مشاريعهم المستقبلية وتقديم الجوائز التقديرية لهم.. ولا أدل على سريان روح وثقافة المستقبل في البنية المجتمعية، من أن دولة الإمارات أصبحت اليوم إحدى أهم حاضنات الابتكار وتكنولوجيا المستقبل حول العالم، بل وصناعة المستقبل.

وتأكيداً للتوجه المستقبلي لدولة الإمارات العربية المتحدة، نستشهد ببعض تصريحات وأقوال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، صدرت في مناسبات مختلفة: «نحن مغرمون بالمستقبل وما يحمله من تغييرات عظيمة.. ولا بد لحكوماتنا أن تفكر بما بعد اقتصاد النفط من اليوم، ولا بد من إعادة النظر في المنظومة التشريعية والإدارية والاقتصادية بشكل كامل.. ولهذا غيرنا اسم إحدى الوزارات لتكون وزارة للمستقبل؛ لأننا نتعلم أيضاً من المستقبل وليس فقط من التاريخ.. ونحن دولة نتعلم كل يوم، ومع كل درس نتعلمه لا بد أن نأخذ قرارات لنطور بها مستقبلنا.. الابتكار، اليوم، ليس خيارا بل ضرورة، وأسلوب عمل، والحكومات والشركات التي لا تجدد ولا تبتكر تفقد تنافسيتها وتحكم على نفسها بالتراجع.. سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الابتكار».

وختاما، فإن استشراف المستقبل والتخطيط لمتطلباته وتحدياته ومتغيراته، منهج أصيل في في حضارتنا وتاريخنا وتراثنا، فعندما يرشدنا القرآن الكريم إلى تخطيط سيدنا يوسف، عليه السلام، لتأمين الغذاء للسنوات السبع العجاف، ويعلمنا الرسول، عليه الصلاة والسلام، بعقده «صلح الحديبية» تمهيداً لفتح مكة، أربع سنوات قبله، ويرفض الخليفة عمر، رضي الله تعالى عنه، توزيع أرض السواد على الغانمين، تأميناً لحقوق الأجيال القادمة.. فكل ذلك تخطيط واستشراف للمستقبل.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com