متطرفون من حيث لا نشعر
متطرفون من حيث لا نشعرمتطرفون من حيث لا نشعر

متطرفون من حيث لا نشعر

علي عبيد

نحن نتحول إلى متطرفين أحياناً دون أن نقصد أو نشعر. يحدث هذا للكثيرين منا، وذلك من خلال إعادة نشر بعض الرسائل التي تصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، دون أن ينظروا بعين فاحصة في مضامينها، أو يدققوا في محتواها، وسوف أضرب لكم أمثلة على ذلك.

انتشرت قبل فترة، رسالة تم تداولها عبر وسائل تواصل اجتماعي كثيرة، تروّج لمفاهيم أقل ما يقال عنها، إنها تنشر ثقافة الكراهية ضد الأمم والشعوب وأصحاب الديانات الأخرى. هذه الرسالة مليئة بالكراهية ضد المجر والمجريين، تزعم أنهم يكرهون المسلمين، وأن العداء بيننا وبينهم مستحكم منذ قرون عدة، ويرجعون أسباب كرههم للمسلمين، إلى معركة نشبت بينهم وبين العثمانيين، أجبر خلالها السلطان العثماني، سليمان القانوني، المقاتلين المجريين على حمل السلاح، رغم استسلامهم للجيش العثماني، كي يجيز لجيشه قتلهم، بدعوى أنه لا يريد أسرى!

واضح أن الذين صاغوا هذه الرسالة، أرادوا أن يدقوا بيننا وبين شعب أوروبي، إسفيناً، حتى لو كان ذلك من خلال فبركة قصة لم تذكرها كتب التاريخ، عن قائد مسلم لا يمكن أن يخالف أمراً سماوياً صريحاً، هو قوله تعالى «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا»، كي يحقق حلماً إمبراطورياً، يدّعون هم اليوم أنهم يحاولون إحياءه، لذلك، عمدوا إلى استغلال معركة «موهاج»، التي وقعت بين السلطان سليمان القانوني، والملك «لايوش الثاني» عام 1526 م، في إطار الصراع على النفوذ في أوروبا بين العثمانيين والإسبان، الذين ظهرت قوتهم كأعظم ما تكون في تلك المرحلة، حيث كانت إسبانيا تملك أقوى الجيوش الأوروبية وأكثرها كفاءة وقدرة على القتال، وامتد نفوذها إلى المجر، فكانت معركة «موهاج» التي حقق فيها العثمانيون نصراً سريعاً وحاسماً، احتلوا بعده المجر، ودخلوا عاصمتها «بودابست»، بعد مقتل الملك «لايوش الثاني»، وسبعة من الأساقفة، مقلصين بذلك نفوذ الملك الإسباني «شارل الخامس».

هذه هي حقيقة معركة «موهاج»، التي وقعت قبل خمسة قرون تقريباً، وقد تجاوزها المجريون، ولم تعد تحكم علاقاتهم بالأتراك اليوم، بدليل الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، وارتفاع حجم التجارة بينهما.

ورغم هذا، يؤلف لنا المتطرفون قصة لم تحدث، ويستغلون معركة مضى عليها ما يقارب 500 عام، يضعون عليها بهاراتهم، ليخلقوا عداوة ليس لها مبرر بيننا وبين بلد أوروبي زاره الكثيرون منا، فلم يجدوا من شعبه إلا الترحاب والمعاملة الحسنة، بينما يحاول المتطرفون اللعب على عواطف البسطاء، لنشر ثقافة الكراهية ضد الشعوب الأخرى بيننا، كي يوغروا صدورنا عليهم، ليبرروا لنا جرائمهم واعتداءاتهم ضد المدنيين الآمنين، الذين تفتح لهم حكومات بلدانهم أبوابها للجوء إليها والعيش فيها، فينقلبون عليها، ويمارسون أحقادهم ضد شعوبها.

هذا مثال على ما يمرره المتطرفون إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فننساق لهم، ونمرره بدورنا إلى غيرنا، دون أن نفكر في مضمونه وأهدافه، ليصبح داخل كل واحد منا متطرف خفي، يرسل خطابات كراهية بشكل تلقائي، معتقداً أنه يخدم الإسلام والمسلمين، في حين أنه لا يخدم سوى أهداف المتطرفين ومن على شاكلتهم، ممن لا يمثلون الإسلام الحقيقي الذي نعرفه جميعاً.

وهناك أيضاً رسائل كثيرة، تمجد المتطرفين الذين يعترضون على تجريم دولهم لتكفير الآخرين ونبذهم، وتسمي هؤلاء المتعصبين، أسود الله المدافعين عن حدوده، وتؤلب من يقرأها على الحكومات العربية المسلمة المعتدلة، فتصف المواد المقترح إضافتها إلى دساتيرها لمنع تكفير الآخرين، بأنها مواد تسمح بسب الذات الإلهية، والعياذ بالله، وهذا غير حقيقي بالطبع.

من هذه الرسائل، على سبيل المثال، رسالة تحتوي على مقطع فيديو، يظهر فيه نائب في برلمان دولة عربية أفريقية، منفعلاً بشكل تمثيلي مبالغ فيه، اعتراضاً على إضافة مادة تسمح بحرية المعتقد، وتجرم من يكفِّر الآخرين. والغريب أن البعض يعيد نشر هذه الرسالة، مشيداً بالنائب المنفعل، غير مدرك أن التكفير هو الخطوة الأولى التي يبدأ منها المتطرفون استباحة دماء البشر، ويبررون ما يقومون به من أعمال إرهابية، يقتلون خلالها مدنيين أبرياء.

رسائل كثيرة مثل هذه، تستحضر معارك وفتوحات لدول وممالك لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ، ولو عادت في عصرنا هذا، لما كان لها أن تحكم بمنطق السيف الذي كان مناسباً لوقتها والمرحلة التاريخية التي عاشت فيها، لأن العلاقات الدولية تغيرت كثيراً، وأصبحت هناك منظمات دولية وتحالفات وقوانين تحكم العلاقات بين الدول، ليس من بينها ما تدّعيه هذه الأصوات المجنونة وتدعو إليه، ثم ننساق نحن بحسن نية لما تروج له، ونتبناه، ونعيد نشره من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي، دون وعي ولا تفكير ولا تمحيص، فنتحول بذلك إلى ببغاوات تردد ما تسمع، ونصبح متطرفين من حيث لا نشعر أو نقصد، والمتطرف الخفي أخطر من المتطرف الصريح، لأن المتطرف الصريح معروف وظاهر، أما المتطرف الخفي، فيمارس حياته دون تشدد أو تزمت، ثم يقوم بعد ذلك بالترويج لهذه الرسائل ونشرها، في تناقض واضح بين ما يقول وما يفعل.

أتمنى على الأخوات والإخوة الذين يديرون مجموعات، ويملكون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وعلى الذين يشاركون فيها، والكثير منهم من أصحاب المؤهلات العليا، أتمنى عليهم أن يفحصوا جيداً الرسائل التي ينشرونها أو يعيدون نشرها، لأن فيها الكثير من الخبيث الذي يجب أن يُحجَب، وفيها الكثير من الغث الذي يجب محاربته، كيلا يستغلنا أصحاب الأجندات المشبوهة، رغم أننا لسنا منهم ولا نشبههم. *البيان

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com