انتخابات لندن
انتخابات لندنانتخابات لندن

انتخابات لندن

أيمن الصفدي

اختارت لندن الأمل ورفضت الخوف. هذا هو المغزى الذي رآه أوّل بريطانيٍّ مسلمٍ في انتخاب المدينة له رئيساً لبلديّتها. لم يتخيّل صادق خان المنحدر من أصولٍ باكستانيّة أنّ "شخصاً مثله يمكن أن يُنتخب رئيساً لبلديّة لندن".  لكنّ هذا ما كان. انتصرت القيم الحضاريّة على الغرائز الإقصائيّة. تمسّكت المدينة بثقافتها الديمقراطيّة التعدديّة.

أصبح خان، الذي عمل والده سائق شاحنةٍ بعد أن هاجر من باكستان إلى العاصمة البريطانيّة، رئيساً لبلديّة مدينة الضباب. ولا ضبابيّة في الرسالة التي حملها هذا الانتخاب. اختارت لندن الشخص الذي تعتقد أنّه مؤهلٌ لقيادتها من دون الالتفات إلى عرقه أو أصوله أو دينه، في تأكيدٍ صريحٍ على القيم المدنيّة الإنسانيّة التي تجعل من هذه المدينة حاضرةً عظيمة.

أتى انتخاب خان في وقتٍ جعل الإرهاب وجرائمه البشعة الخوف من الإسلام ظاهرةً متفشيةً في كلّ بقاع الأرض، وخصوصا في أوروبا التي شهدت عديد هجماتٍ إرهابيةٍ ذهب ضحيّتها عشرات الأبرياء. لا شكّ أنّ بريطانيا تأثّرت بهذه الموجة. لكنّ الواضح أنّ أكثريّة ناسها بقيت متمسكةً بقيمها، ورفضت السقوط في همجيّة التمييز بين مواطنيها على أساس معتقداتهم وأصولهم.

ولا شكّ أيضاً أنّ خان يمثل جيلاً من المهاجرين المسلمين الذين لا يرون تناقضاً بين هويّتهم البريطانيّة ومعتقدهم الديني. يقول خان "أنا لندنيٌّ، أنا بريطانيٌّ، أنا مسلم الديانة، وبالطبع أنا فخورٌ بإسلامي". ويوضّح أن "العظيم في هذه المدينة أنّك تستطيع أن تكون لندنيّاً من أيّ معتقد أو بلا معتقد، ونحن لا نتقبّل بعضنا فقط بل نحترم بعضنا ونحتفي ببعضنا".

ملخّص كلمات خان أنّ ثقافة لندن قائمةٌ على احترام المواطنة أساساً لعلاقات الفرد بالدولة وأفراد المجتمع بعضهم ببعض. لم يترشّح خان لرئاسة بلديّة لندن بصفته مسلماً. خاض الانتخابات مواطناً بريطانيّاً منتمياً لبلده وقيمه ومبادئه وممثلا لحزبٍ جامعٍ دعمه انطلاقاً من ثقته بقدرته على النجاح في عمله. ولم تنتخب لندن خان لأنّه مسلم. انتخبته كونه مواطنا بريطانيا اعتقد ناخبوه أنّه قادر على خدمتهم. لكن الرسالة الأهم في زمن الاستقطاب الذي نعيش أنّ الناخبين لم يرفضوا خان بسبب بشرته الداكنة أو عقيدته الإسلاميّة التي يفخر بها.

وهذه رسالة يحتاج عالَم العرب أن يسمعها وهو يتشرذم أعراقاً وطوائف ومذاهب. يجب أن تتفاعل انتخابات لندن في عالمنا العربي تذكيراً قويّاً أنّ بناء دولة المواطنة هو أساس الإنجاز وشرط تجاوز المحن التي تعصف به. فبينما تنتخب لندن رئيس بلديةٍ مسلما، تتجذّر الثقافة الإقصائيّة والانقسامات الطائفيّة والعرقيّة في بلاد العرب، وتذوب الهويّات الجامعة وتتفكك الدول والمجتمعات أمام العصبيّات العرقيّة والطائفيّة والمذهبيّة.

بسبب تمسّكها بثقافتها وقيمها الديمقراطية التعدّديّة تعيش بريطانيا بسلامٍ وإنجازٍ علميٍّ واقتصاديّ. وبسبب الإقصائية والعصبيّات الضيّقة التي تكرّس الجهل والقمع والتمييز وتدمّر الهويّات الجامعة تنهار دولٌ عربيةٌ واحدةٌ تلو الأخرى.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com