غُربة لبنان عن جامعته الأميركيّة في عامها الـ150
غُربة لبنان عن جامعته الأميركيّة في عامها الـ150غُربة لبنان عن جامعته الأميركيّة في عامها الـ150

غُربة لبنان عن جامعته الأميركيّة في عامها الـ150

حسام عيتاني

بدأت الجامعة الأميركية في بيروت، الاحتفال بمرور مئة وخمسين عاماً على إنشائها كواحدة من أقدم مؤسسات التعليم العالي في المشرق العربي. تحرّض المناسبة هذه، على النظر في الأثر الذي تركته الجامعة في البيئات التي درس قسم مهم من كوادرها الإدارية والسياسية والثقافية، والعلمية بطبيعة الحال، في «الكلية الإنجيلية السورية» - كما كانت تُسمى الجامعة - ثم جامعة القديس يوسف (اليسوعية) التي تأسست برعاية فرنسية بعد نظيرتها الأميركية بتسعة أعوام.

قيام جامعتين أجنبيتين كبيرتين في أجواء من التنافس العلمي والديني بينهما واستحضار أنجح المناهج والأساليب التعليمية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - على رقعة جغرافية وبين عدد ضئيل من السكان، ليس بالتفصيل القابل للتجاهل عند الحديث عن ظهور الكيان اللبناني وحتى الكيانات القريبة في المشرق.

ذلك أمر يستحق الاهتمام من أكثر من زاوية ولأكثر من سبب قد لا يكون أقلّها أهمية مناخ الحرية المقبولة الذي شهده لبنان مقارنة بالدول المجاورة، بما يتيح سير العملية التربوية والتعليمية في منأى عن الضغوط السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في العالم العربي.

وليس المجال هنا متاحاً لرصد المسالك المعقّدة التي سارت عليها الجامعة الأميركية في تاريخها المديد نسبياً بين الجامعات في العالم العربي، وما لها من إنجازات وتقديمات وإدخال وسائل تعليمية واختصاصات جديدة، ولا لذكر ما يمكن أن يشكّل مآخذ عليها. ما يهمنا هنا، مقارنة نتائج التفاعل الذي يفترض أن يتم بين كل جامعة بحجم الجامعة الأميركية في بيروت ودورها مع المجتمع المحيط بها، وبين النتائج الواقعية للتفاعل الذي حصل في حالة لبنان والبلدان التي درس طلاب منها في الـ «إيه يو بي»، كما تُعرف بين أهلها وأهل المدينة المضيفة لها. وجليّ أن أفراداً بارزين من النخب العربية تلقوا تعليمهم في الجامعة بتوجيه رسمي أو ما يشبهه من العائلات العربية النافذة، أو ضمن بعثات تموّلها الحكومات، على أمل أن يصطحب الخريجون العائدون الى بلادهم ودولهم ما يفيد في تجسيد طموحات كبرى.

على المستوى اللبناني، تفيد عملية حسابية بسيطة بأن عشرات الآلاف من اللبنانيين والعرب نالوا شهاداتهم من الجامعة الأميركية منذ أكثر من قرن من الزمن، وهذه فترة كافية لنمو البذور التي غرستها عقود عدة من التعليم في تربة لبنان والمشرق العربي. ومن المبرر الاعتقاد أن البذور تلك تحولت في هذه الأثناء، ثماراً ناضجة. لكن السؤال الكبير يظهر هنا: هل كان هؤلاء الخريجون الذين نالوا تعليماً متميزاً سواء في «الأميركية» أو «اليسوعية»، ليحدثوا تغييراً أعمق وليدفعوا لبنان أسرع نحو النمو والتقدم لو كان النسيج الاجتماعي الذي جاء الخريجون منه أكثر تماسكاً وأقدر على استيعاب ما طرحته هاتان الجامعتان وغيرهما من آراء ومناهج وأفكار؟

يحيل السؤال أعلاه الى موضوع التراكم المعرفي وموقعه في سيرورة التقدّم الاجتماعي والسياسي والنمو الاقتصادي. وبغض النظر عن قصص النجاح الفردية لخريجي الجامعة الأميركية في لبنان وشتى أنحاء العالم، واحتلال بعضهم مواقع رفيعة المستوى في الحقول الأكاديمية التي تخصصوا بها أو في الإدارات التي نشطوا فيها، فإن التأمل في اللوحة الأعرض لا يدعو الى كبير ارتياح.

ذلك أن القسم الأكبر من أصحاب الإنجازات الأكاديمية والعلمية حازوا مراكزهم خارج بلادهم، في المؤسسات العلمية أو المهنية الأجنبية. وباتت سوق العمل المحلية عاجزة عن استقبال أصحاب الكفاءات ما لم يأتوا من خلفيات تضمن انخراطهم في نظام المحاصصة الطائفية والسياسية الحاكم في لبنان. من لا تتوافر له الخلفية هذه، ليس أمامه من باب مفتوح سوى باب الهجرة، حيث يدفع الركود الاقتصادي وانعدام الاستقرار السياسي المزمن الى صرف الاهتمام عن بناء الحياة المهنية في لبنان بين صفوف الخريجين الشباب.

يبدو، والحال على ما تقدّم، أن الأعداد الأكثر كفاءة وتطلعاً الى المستقبل من حملة الشهادات من خريجي الجامعة الأميركية وغيرها، تترك لبنان بحثاً عن فرص حياة لائقة، فيما يبقى في لبنان من حالفه الحظ في العثور على عمل أو من أسعفته العلاقات العائلية - الزبائنية في الالتحاق بمسار مهني مضمون النجاح.

عليه، قد تكون صورة المجتمع النابذ الكفاءات المستقلّة هي الصورة الأقرب الى حقيقة المجتمع اللبناني اليوم، بفتاته وانقساماته التي لا نهاية لها وصراعاته العديمة المعنى والأفق. ويؤدي المصير المأسوي الذي انتهت إليه الجامعة اللبنانية، التي كان من المأمول أن تتحول الى المزود الرئيس للدولة بالكفاءات الرفيعة المستوى، دور المرآة العاكسة صورة الدولة والإدارة والسياسة في لبنان بعدما تشاركت قوى الأمر الواقع، وكل منها لأسبابه ودوافعه، في تحطيم تجربة الجامعة الوطنية ومنعها من أن تكون مؤسسة أكاديمية تخدم مجتمعاً واحداً.

أحوال الجامعات الخاصة ليست أكثر إشراقاً. فيوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، يتعزز ارتباط الجامعات هذه بسوق عمل تقع واقعياً خارج لبنان، حيث تتكيف المناهج والمضامين مع حاجات غير تلك المحلية، الغامضة والمحدودة أصلاً.

ويخشى المرء القول أن اللائحة الطويلة من الباحثين والأطباء والمؤرخين والعلماء اللامعين في شتى المجالات من الذين تخرجوا من الجامعة الأميركية في بيروت، كانت غريبة على معادلات السلطة والنفوذ والترقي المرعية في لبنان. وما يُخشى أكثر أن الحال هذه تتفاقم.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com