في جدل الأمن والحريّة ...
في جدل الأمن والحريّة ...في جدل الأمن والحريّة ...

في جدل الأمن والحريّة ...

موسى برهومة

يرى بعين واحدة كلُّ من يعتبر أن ثمّة تناقضاً بين الأمن والحريّة، أو من ينظّر إلى أنّ تحقيق الأمن يعني تخفيض منسوب الحريّات، وتكميم الأفواه، وتقييد الديموقراطيّة، أو تعطيلها وتأجيلها. والعالم العربيّ مبتلى بهذا البعبع منذ إرهاصات قيام دولة إسرائيل، قبل نحو سبعين عاماً. فباسم الدّفاع عن «الأوطان» من التربّص الصهيونيّ، ومن شهوة توسّع الدولة العبريّة، ورغبتها في ابتلاع الجغرافيا، ظلّت الكائنات العربية المسمّاة، تجاوزاً، «مواطنين» قابضة على الزّناد، مرتدية الزيّ العسكريّ، ومتأهّبة كأنّ على رؤوسها الطّير.

ولما أضحت «إسرائيل» صديقة، أو أقلّه لم تعد عدوّة، وانطلق قطار المهرولين إلى التطبيع معها، صار لا بدّ من عدوّ آخر، حتى تظلّ قوى الأمن ممسكة زمامَ الأمور، ومهيمنة على المشهد العام، والفضاء الحيوي للبلاد والعباد. الآن، يمثّل تنظيم «داعش» تهديداً حقيقياً، لا يشكّك عاقل في توحشّه وضربه في أيّ مكان يصله عنفه، لا سيّما مع انتشار ونجاعة «استراتيجيّته» الجديدة القديمة المعتمدة على «الذّئاب المنفردة». ومع تسارع الأحداث وحدّتها، راح النّاس، كما جرى في فرنسا، وبعدها في تونس، يؤكّدون للحكومات بأنّهم مستعدون للتخلّي عن الحريّة مقابل الأمن.

بيْد أنّ ذلك على وجاهته، ليس مطلباً استراتيجيّاً بعيدَ المدى لدى أولئك المطالبين بالتّنازل عن جزء من حريتهم لقاءَ شعورهم المستمر بالأمان على أنفسهم وعائلاتهم وتنّقلهم وأدائهم حراكهم المعيشيّ بأقلّ قدر ممكن من الذّعر.

وبعيداً من الاستطراد في تناول الظروف النفسيّة التي قادت هؤلاء إلى هذا الطلب، فأوّل ما يستدعيه الذهن هو هرم «ماسلو» الذي جعل الأمان في طليعة الاحتياجات الإنسانية، بعد التنفّس والطّعام والشّراب، فمن دون الأمان تنشلّ الفاعليّة، وتتعطّل الحواسّ والقدرة على التّواصل مع الذّات والعالم. على أنّ من يدركون هذه الحاجة من «فقهاء» الأمن العربيّ، يبالغون في استخدامها والتّلويح بها، فيجعلونها ذريعة لفرض الأحكام العرفيّة، ومنع الآراء المخالفة، وتقييد الاحتجاجات، ومصادرة حريّة التعبير، ومطاردة الناقدين حتى لو جاء نقدهم عبر حسابهم الخاص على «الفايسبوك»، وهو ما صار يعرف بالجرائم الإلكترونيّة.

وبذريعة أنّ الأمن يقتضي قضم الحريّة، فالإنسان غير مخوّل أن يسأل، أو يفهم، والويل له إن هو طالب الحكومة بالشفافيّة، أو أن يعرف أين تُصرف الأموال، وكيف تُصاغ الموازنة، وما هي النّفقات التي تُبذل لشؤون الدّفاع والأمن ومصاريف الرئيس أو الأسر الحاكمة التي تُقتطع من جيوب المواطنين.

الحقّ في المعرفة غيرُ وارد بذريعة أن «الظّروف السياسيّة، وحساسيّة الموقف، واللحظة الحرجة التي يمرّ بها الوطن» تستدعي عدم المعرفة، فالأخيرة خطرٌ، والدّولة تعرف مصلحة مواطنيها أكثرَ من أنفسهم، لذلك هي تريد أن تحميهم. لا تعرف أكثر، واقعد في بيتك، ولا تشغل نفسك بما لا يُعنيك، كيلا تلقى ما لا يُرضيك!

طيّب. ربما تصلح هذه السياسة موقتاً، صدّاً لعارض أمنيّ، أو كبحاً لتهديد إرّهابي، لكنّها على المدى البعيد، كما هو حال أوطاننا، تورّث شعوراً بعدم الولاء والانتماء، وتولّد، على نحو متسارع، ما صار يسمى بـ «حزب الكَنَبة» الذي فُرض على كلّ منتسب إليه ألا يدسّ أنفه في أيّ شيء، فتصحّرت روحه، وصار أشبه بخرقة بالية في مهبّ الريح، لا اتّجاه لها ولا هدف. لقد أريد للعضو «الكَنَباوي» أن يبقى على الهامش، وألا ينخرط في المعرفة فتحيّد، وكان أجدى به أن يساهم بعمق في التخطيط العام لمصيره، وأن يكون قابضاً «عن حقّ وحقيق» على الزّناد، ومتأهّباً للدفاع عن بلده. لكنّ سدَنة الأوطان لم يشاءوا ذلك، وخنقوا صوته بذريعة أنّ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»!

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com