الكاتب المفوّه!
الكاتب المفوّه!الكاتب المفوّه!

الكاتب المفوّه!

زياد الدريس

في البدء كان خطيباً ثم تحوّل إلى كاتب.

لذا تخرج مقالاته طويلة ومليئة بحواشٍ وزيادات واستطرادات واقتباسات ملائمة وغير ملائمة.

لا تثريب أن يزاول الخطيب الكتابة أو يزاول الكاتب الخطابة، شريطة أن لا ينقل أحدهما معه فنون وآداب ساحته الأولى إلى الأخرى. فنون الكتابة غير فنون الخطابة، صحيح أن بينهما قواسم مشتركة في المفردات والمضامين، لكنهما تختلفان في طريقة بناء العبارة وتمرير الفكرة. ما يعني أن إجادتك لأحدهما لا تعني بالضرورة إجادتك للأخرى، وإن وُجدت أسماء قليلة نادرة ممن أجادوا فنّي الكتابة والخطابة معاً.

عندما يكتب أحدهم مقالة صحافية بطقوس خطابية فإن القارئ يتخيل نفسه جالساً بين حشود من القراء «يستمعون الى المقالة» معه!

هذه الكينونة الحُشُودية لقارئ يستمع إلى مقالة / خطبة، وهو في غرفته وحيداً، تصيبه بما يشبه الشيزوفرينيا التي قد تربك مقاليد الفهم عنده.

هذا النوع من الكتّاب / الخطباء يجعلك تتخيله يكتب مقالته وهو واقف، ويقرأها القارئ وهو متكئ على عمود!

الإطالة والإسهاب هما أحد أكبر مآزق الكاتب / الخطيب، إذ وهو يكتب من فوق (منبره الافتراضي)، فهو لا يتخلى عن الديباجة التمهيدية التي يسلّك بها الخطيب صوته حتى تتصاعد نبراته ويعلو إلى المستوى المطلوب، غافلاً عن أن كتابة المقالة لا تحتاج إلى تسليك صوت، بل إلى تسليك فكرة بأدوات أدائية مختلفة عن الأدوات الصوتية.

كما أن طريقة ذكر الأسماء والأعلام في المقالة تختلف عنها في الخطبة، ففي حين تلجلج الألقاب والنياشين في أذن سامع الخطبة فتفعل فعلها الانتعاشي، فإن هذا المفعول لا يقع في المقالة، بل ربما أحدث عكس ذاك المفعول عبر تعطيل الفكرة وتخويرها في سبيل فرش أرضية الألقاب التي تأخذ وقتاً وجهداً قرائياً أكثر بكثير من جهد الاستماع.

كما أن استجلاب ابتسامة المستمعين في الخطبة أمر ميسور بالمحاكاة عبر تبسّم الخطيب أمام أنظار الجمهور. لكن هذا الاستجلاب (أو الاستحلاب) للإبتسامة لن يكون متيسراً في المقالة بنفس آلية الخطبة، وإذاً فلا بد من أن تكنيكاً آخر يصنعه الكاتب لكسب ابتسامة القارئ، طبعاً ليس باستخدام إشارة (ههههه) في مقالة رصينة. ولذا يكثر الخطباء الساخرون، بينما يقلّ ويندر الكتّاب الساخرون.

مشكلة الخطباء حين يتحولون إلى كتّاب أنهم ينقلون معهم كل «عفشهم» الخطابي بما فيه علامة الجودة: (خطيب مفوّه)، فيريد بالمثل أن يكون كاتباً «مفوّهاً»، وما درى أن هذه الصفة علامة رداءة في الكتابة... لا جودة.

عزيزي الخطيب: إذا أردت أن تكتب فانزل من المنبر!

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com