فن المستحيل
فن المستحيلفن المستحيل

فن المستحيل

قال ميكيافيللي «إن السياسة فن الممكن». وردد العالم هذا القول لأنه، كما ترى، قول مريح يحررك من تعب المسؤولية وتكرار المحاولة. وقد تبين لنا من يوميات الزمن الذي لا يكف عن تدوين مفكرته في كل مكان، أن السياسة بالأحرى هي فن المستحيل. فأين هو الإنجاز في محاولة الممكن ما دام متاحا للجميع. إن التاريخ لا يذكر في الحقيقة إلا أولئك الذين حققوا ما بدا للجميع مستحيلا. كمثل المصالحة الألمانية الفرنسية بين شارل ديغول وكونراد أيدنهاور، التي أنهت نحو سبعة قرون من الحروب والقتل والاحتلالات والقهر. لم يؤد سلم العجوزين أوائل الستينات فقط إلى اللقاء المستحيل بين الراين والسين، وإنما أدى إلى انفتاح جميع أبواب أوروبا وسقوط جميع حدودها ومحو تذكاراتها المريرة.



العلاقة البريطانية الفرنسية كانت تبدو أيضا شيئا مستحيلا. والتحالف الياباني الأميركي كان يبدو بعد هيروشيما جريمة من الجرائم. في مثل هذا الشهر قبل مائة عام، كان العالم برمته يبدو خريطة من الخراب والدمار والأحقاد وبراكين القوميات وشلالات الثأر الدموي. كل دولة تلبي نداء الحرب على عجل وتدفع رجالها نحو الجبهات المتفشية في كل مكان، وقد مهدت الحرب العالمية الأولى لحرب عالمية ثانية، وتحول الكوكب في الحربين إلى سباق همجي بين آلات التدمير والقتل والإبادة، في الجو وعلى الأرض. وما كان طائرات شبه خشبية في الحرب الأولى، أصبح طائرات تحمل القنابل الذرية في الحرب الثانية. وبعد ما تسابق البشر في إفناء بعضهم البعض، جلسوا حول طاولة واحدة وعقدوا السلم وهم يتربعون فوق ملايين الجثث ورماد المدن وغبار الأرواح.

لا شك، لحظة واحدة، أن شجعان السلم كانوا أكثر فروسية ونبلا من شجاعات التدمير والانتحار. العالم العربي، في حاجة إلى شجعان الرفعة وأكابر الهدوء وحراس المستقبل. العالم الإسلامي مليء ببطولات الحرب وهزائمها، وقد آن له أن يمنح المسلمين دار السلام الحقيقية، وأن يوفر عليهم المزيد من بحيرات الدم وخضاب الأنهر. ليس الأمر صعبا فحسب، بل هو مستحيل أيضا. وقد تصدى له كثيرون من ذوي النيات الحسنة وانتهوا إلى الفشل، وأحيانا إلى النكران. لكن المستحيل ليس اليأس. والنيات الحسنة لا بد أن تغلب ذات يوم على روح الثأر وتوالد الانتقامات وانسداد الصدور الضيقة وتلبيد الآفاق بالغيوم السوداء، التي لا تمطر إلا غضبا ورمادا.

(الشرق الأوسط)

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com