النيل الأحمر
النيل الأحمرالنيل الأحمر

النيل الأحمر

سيرة جديدة للنيل. ومثل كل سيرة لبحر مصر، فهي ممتعة. لكن الرحالة البريطاني روبرت تويغر يعطي النيل اسما جديدا. إنه ليس الأزرق ولا الأبيض ولا الأخضر ولا «الأسمر حليوة»، بل هو النيل الأحمر. فعندما يطوف النيل الأزرق تماما ويدخل النيل الأبيض حاملا معه طميه ورواسبه وغضبه، يتحول اللون لبضعة أيام إلى أحمر قان.



أين يحدث هذا اللقاء السحري العظيم؟ قرب الخرطوم، في أوائل الصيف، حيث يلتقي الأزرق والأبيض في مكان رائع كان يسمى الغابة. والآن، أصبح له اسم سياحي، لست أذكر ما هو ولا أحب أن أذكر. كم كان اسم الغابة جميلا عندما رأيت النيلين يطوقان أشجارها.


النيل مؤسسة خارقة التنظيم. يعرفه العالم باسم واحد، لكنه يضم عددا هائلا من الجداول والأنهار الصغيرة التي، تباعا، تلتحق به، إذ يتدفق عبر ربع القارة الأفريقية، مارا بالدول والأوطان والقبائل. نقطة مياه واحدة تنضم إليه في بوروندي وتبحر معه إلى إثيوبيا، ثم إلى الدلتا في مصر وتنتهي قطرة في المتوسط. لو قدر لـ«التيمس» أن يقوم برحلة مشابهة، لكان عليه أن يكمل الطريق إلى القنال الإنجليزي ثم إلى بر أوروبا ويعبر كل تركيا ومنها إلى العراق فالخليج العربي. وأتوقف هنا لأقول إن مصطلح «الخليج العربي» ليس استخداما حماسيا مني، بل هو للعالم البريطاني نفسه.

سحر النيل البشرية منذ البدء. حلم الإسكندر الكبير في القرن الرابع قبل الميلاد بالعثور على منابعه التي لم تضبط جميعها حتى اليوم. أذهل الإسكندر أنه نهر يفيض في الصيف لا في الشتاء، بعكس جميع أنهار العالم القديم. الفيضان الصيفي هو سر النيل وسر مصر. سر خصبها ومواسمها. عندما تحتاج قطرة مياه في الحر والجفاف تعطى طنا منها. يفيض وتتفجر ضفافه بالتربة الخصبة التي يأتي معظمها من سهول إثيوبيا وروابيها. كل هذا الخصب جعل الرومان يسمون مصر «غلال الإمبراطورية».

ألا تخطر لك بعض الأسئلة عندما تقرأ اليوم عن أزمات الحبوب والطحين في مصر؟ قبل أشهر، أعلنت الحكومة، في بيان اطمئناني، أن مؤونة القمح في الصوامع تكفي ثلاثة أشهر. هل تتخيل؟ هل يخطر لك أن أرض النيل وبلاد ما بين النهرين تعانيان دائما أزمات تموين، فيما تصدر الكويت القرنفل (وغيره من الأزهار) إلى موطنه الأصلي في هولندا، معتمدة مياه التحلية بالقطارة لا بالفيض. يحمل هذا النهر، عبر العصور، الخصب والحياة. الأقاصيص والتاريخ. الممالك والاندثار. الحضارة والتراجع. التماسيح والأزهار والورود والسفن والمراكب والعمار والخير. أول دولة في التاريخ صارت كذلك بسببه.
لماذا لم تقم أول دولة عند بحيرة فيكتوريا أو في بوروندي أو في إثيوبيا؟ الجواب بسيط: لأنه لم يكن مصريون هناك. عذرا على الكلام، لكنها الحقيقة وهو التاريخ. وسوف «يزعل» مني العراقيون كالمعتاد! وماذا عن سومر؟ «على راسي» سومر. ماذا تفعلون ببلدكم وبأنفسكم. ماذا جعلكم تنتقلون من أوائل حضارات الأرض إلى «دولة القانون»؟ كيف تتحولون من أهم إمبراطورية عربية إلى نموذج التمزق العربي؟ النيل ودجلة والفرات والجفاف يضرب العالم العربي. مثل الجهل. مثل الرعب. مثل حصاد الموت والفقر والأمية.

(الشرق الأوسط)

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com