صيّاد السحر والحكايات
صيّاد السحر والحكاياتصيّاد السحر والحكايات

صيّاد السحر والحكايات

في ‘قصة موت معلن’، روى غابرييل غارثيا ماركيز حكاية موت سانتياغو نصار مذبوحا بالسكاكين. كل القرية، ما عدا الضحية، كانت تعلم أن المهاجر السوري-اللبناني سوف يموت. وعندما سقط سانتياغو أو يعقوب، أحسسنا، نحن القراء الذين أشركنا المؤلف في سره المعلن، بالمفاجأة. فالموت، حتى حين يكون معلنا هو المفاجأة الأخيرة التي تصفعنا ببرودتها وحقيقتها.

لم يكن ماركيز بطلاً كي يموت مذبوحا لأنه فض بكارة فتاة، كما مات المهاجر المشرقي الجميل، لكنه كان راوي الحكاية. وكي تروي يجب أن تعيش، أي أن لا تكون بطلا، بل ظلا للبطل أو رفيقا له، أو شاهدا على الحكاية.

لكن موت ماركيز المعلن منذ إصابته بالسرطان عام 1999، جاء مفاجئا كما يجيء الموت. حتى الرواة الذين اختبأوا خلف أبطالهم وحكاياتهم، يتحولون الى أبطال ولو مرة واحدة، حين تعلن بطولتهم موتهم.

منذ أن صدرت ترجمة ‘مئة عام من العزلة’، الى لغة الضاد، صار ماركيز كاتبا عربيا، من دون أن يدري. دخل سحر عوالمه في وجودنا وكأنه آتٍ من مكان عميق في وعينا وذاكرتنا.

ما أطلق عليه النقاد اسم الواقعية السحرية، لا يشبه سوى العجيب والغريب في التراث الأدبي العربي، الذي صنعته شهرزاد في كتاب ‘ألف ليلة وليلة’. واقع مسحور وسحر واقعي، السحر ليس خيالا لأنه ابن الحقيقة، والحقيقة ليست حقيقية لأنها ابنة الخيال. هذا المزج بين الواقعية والسحر، أوصل الرواية التي بدأت رحلتها السحرية مع كافكا وفوكنر الى إحدى قممها، عبر تحويله الحياة اليومية الى مرادف للحلم.

إحساسنا بأن هذا الأدب يأتي من مكان عميق في وجودنا سبق لبورخيس أن رسم ملامحه حين اخترع ليلة لا وجود لها في كتاب الليالي، ثم تشكل مع الأبطال السوريين في الرواية الأمريكية اللاتينية ليصل الى ذروته مع سانتياغو نصار، الذي دخل في ‘مجمع أسرارنا’، وصار بطلي الشخصي مع أقربائه اللبنانيين الذين شهدوا مذابح 1860 وكانوا ضحاياها.

هذا الأفق العربي- الأمريكي الجنوبي لم يجد حتى الآن من يدرسه. وانا هنا أستخدم صيغة الهوية بشكل رمزي، لأن ‘ألف ليلة وليلة’ ليست عربية الا لأنها تدور في أفق لغوي عربي وفي مناخات دمشق والقاهرة وبغداد، لكنها كانت تلخيصا للآداب الشرقية كلها. كما ان أدب أمريكا الجنوبية الذي ولد من رحم الحكاية الشهرزادية، ليس محليا إلا لأنه يدور في أفق لغوي واجتماعي محدد، لكنه يمتد ليلخص أدب القرن العشرين بعناصره الأساسية.

سر ماركيز أنه تعلم أن يكون راويا وشاهدا، لكنه لم يجلس في المقاعد الخلفية كي يحتمي من عصف الزمن. عاش في قلب العاصفة، وكان مناضلا يساريا حتى النهاية. كان تشيليا في مواجهته للإنقلاب العسكري الفاشي، وكوبيا في دعمه لحلم الثورة، وفلسطينيا في دفاعه عن الحق والحقيقة. من الصحافة الى الأدب، صنع هذا الكاتب أسطورة أدبية تشبه أساطير رواياته، تعلم فن الحب بالحب، وواجه ‘خريف البطريرك’ بالسخرية، وذهب الى متاهات الجنرال، وروى من دون توقف. كأنه كان يصطاد الكلمات ويعيد تأليفها من جديد، فاتحا للخيال أفقا جديدا، مكتشفا أن الحياة حلم من الرغبات والإحتمالات، وأن السحر بعد طرده من كل الأمكنة، عاد الى الكلمات التي كانت مهده وستبقى بيته الى الأبد.

اصطاد ماركيز الحكايات من ذاكرته ومن الواقع، او هذا ما أوحته لنا مذكراته التي أعطاها عنوان ‘عشت لأروي’، هكذا بعث في مذكراته كل شياطينه التي أوحت له، كي يبرهن انه لم يخترع شيئا، وان المؤلف لا يؤلف بل يصطاد القصص ويعيد صوغها.

لكنني أحسست وأنا اقرأ المذكرات أنني أمام عمل تخييلي بامتياز. لم أصدق المذكرات، لأنني شعرت أن حرفة الأدب وشياطين الخيال تداخلت فيها مع الوقائع، بحيث شعرت أنني أمام نسخة روائية جديدة لأعمال روائية سابقة، وأن ما حاول الكاتب أن يعطيه صفة المذكرات، لم يكن إلا مزجا للذاكرة بالخيال.

لنفترض أن شهرزاد كانت شخصية حقيقية، (بالمناسبة فإن الكتّاب الذين تعيش أعمالهم طويلا، يتحولون هم أيضا الى شخصيات من صنع الخيال من أمرئ القيس الى هوميروس وصولا الى شكسبير…) ولنفترض أنها ستكتب الآن ذكرياتها، فكيف ستتعامل مع السندبادين، هل بوصفهما خيالا تمرد على الحقيقة، أم حقيقة تستطيع أن تضبط الخيال؟ وكيف ستروي حكايتها مع الملك المجنون، هل بصفتها حيلة أدبية أم بصفتها حيلة حياتية؟ لا شيء يستطيع أن يكون أكثر حقيقية من خيال أدبي يلعب مع الحياة لعبة الموت، هذه هي لعبة الأدب الكبرى، بدل أن نترك للموت أن يصنع نصنا عن معنى الحياة، تقوم الحياة بكتابة نصها عن معنى الموت.

إنها لعبة معقدة بدأها أجدادنا العرب بالوقوف على الأطلال، كي تصير الكلمات وشما على جسد الرحيل، وصارت حقلا أدبيا عبر قدرتها على تحويل الموت الى أحد اشكال الحياة، ليس عبر الإنتصار عليه، بل عبر تحويله الى أحد احتمالات الواقع السحرية.

قال شقيق ماركيز إن الرجل بدأ يفقد ذاكرته منذ سنوات قليلة، وأثار هذا التصريح الكثير من الأسى والغضب، لكن ما فاتنا اكتشافه هو أن ذاكرة الموت أخذت الكاتب من مكسيكو الى ماكوندو، بلدة خياله الروائي في ‘مئة عام من العزلة’. ربما فقد ذاكرة المدينة التي أقام ومات فيها، لكنه لم يعد يحتاج الى هذه الذاكرة منذ أن قرر أن يعيش في ماكوندو، ويبدأ رحلته من جديد، متلاشيا في الكلمات، متخليا عن دوره كراو ليصير جزءا من الرواية.

*القدس العربي

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com