نزار أفريقيا.. سياب السودان: بشر الأبنوس
نزار أفريقيا.. سياب السودان: بشر الأبنوسنزار أفريقيا.. سياب السودان: بشر الأبنوس

نزار أفريقيا.. سياب السودان: بشر الأبنوس

سمير عطاالله

ظُلِم الشعر السوداني ظلمًا صلفًا. المرحلة التي برز فيها شعر الفيتوري دون سواه، كانت مليئة بكبار وأجمل الشعراء في السودان، لكن وهجهم ظل خلف ظلال الغابة في بلاد النيلين، فيما عَبَر شعر الفيتوري بلاد العرب، بادئًا من المنصّة الطبيعية، مصر. وفيما بقي مواطنوه على الكلاسيكية والجرس التقليدي، عرف الفيتوري كيف يعزف الأوزان بإيقاع حديث، متأثرًا في البداية ببعض شعراء الرمزية اللبنانيين، ولكن معبرًا دومًا عن قضايا وآلام الشاعرية السودانية التي بدأت مع النهضة المهدوية أواخر القرن التاسع عشر، من نضال وطني وشكوى اجتماعية وأحاسيس الألم العام. تميز الفيتوري عن شعراء بلاده بتوسيع رجع الصدى. هو لا يهجو البرلمان في الخرطوم، ولا الفقر في بحر الغزال، بل سوف يكتب عن الإسكندرية، على المتوسط، وبداية هجرته الدائمة، عن أفريقيا برمَّتها. وفي النهاية، سوف تحمل ثلاثة من دواوينه عنوان القارة: «أغاني أفريقيا»، و«عاشق من أفريقيا»، و«اذكريني يا أفريقيا». إنه يشهر في وجه الرجل الأبيض بشرته بكل إيقاعاتها وأعماقها.

أين أضع الفيتوري في من أحببت؟ انسَ الآن أننا على بعد عقود من غنائيات القرن الماضي، ولكننا لا نستطيع أن نُخرج الفيتوري من تلك الدائرة الجميلة والباسقة مثل مروج الشقائق: أحمد شفيق كامل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ونزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وبدر شاكر السياب. هذا كان زمنه، وذلك كان إيقاعه وموسيقاه. ولست ناقدًا لأعرف أي مكانة تليق حقًا بالفيتوري شاعرًا وإنسانا، وكم خصوصًا أحببته «حرًا»، تلك اللازمة التي كان يعود إليها في كل شعره. زنجي، لكن حرًا. امضي أيتها العبودية إلى غياهب الزمان.

كان الفيتوري شاعر أفريقيا وشاعر العربية أيضًا. نظلم لغته وقريضه وبراعته وتقاسيمه إذا اعتبرنا أنه شاعر الأفرقة والزنوجة فقط. فقد كان في مرحلته أحد رموز التجدد في الشعر العربي. وقد ظلمه الرفاق الشعراء كما يفعلون في كل عصر وكل وطن. وكانت «القضية» الأفريقية بعيدة عنا، فلم تعطه ما أعطت القضية الفلسطينية لمحمود درويش من هالة إضافية، أو خاصة. لكن يا لجمالات أفريقيا في شعر الفيتوري. «عجوز ملفعة بالبخور/ وحفرة نار عظيمة/ ومنقار بومة/ وقرن بهيمة/ وتعويذة صلاة قديمة/ وليل كثير المرايا/ ورقصة سود عرايا/ يغنون في مرح أسود/ وغيبوبة من خطايا/ تؤرقها شهوة السيد/ وسفن معبأة بالجواري الحسان/ وبالمسك والعاج والزعفران/ هدايا بلا مهرجان/ تسيرها الريح في كل آنٍ/ لأبيض هذا الزمان/ لسيد كل زمان».

آه، كم يبدو حزينًا وناقمًا، وكم تبدو أفريقيا محزنة ومعتمة ومؤلمة في شعره: «خاملة.. خائرة خاضعة/ أكلُّ ما عندك أن تضحكي/ هازلة بالقيم الرائعة/ أكلُّ ما عندك أن تصدّري قوافل الرقيق يا ضائعة».

«بلاد العبيد..! أفريقيا/ يا بلاد الزنوج الحفاة العراة/ ذلك الأبنوس العجيب/ المفصل مثل البشر/ ونيرانهم في شعاب الجبال/ وأطفالهم في بطون الشجر».

كان لكل شاعر عدو، أو خصم، أو استعمار يثور عليه. الفيتوري كان عليه أن يتمرد على عالم من المكونات والعناصر، أولها مرآه لنفسه.

إلى اللقاء..

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com