"ليس لدى الجنرال من يكاتبه"
"ليس لدى الجنرال من يكاتبه""ليس لدى الجنرال من يكاتبه"

"ليس لدى الجنرال من يكاتبه"

إبراهيم حاج عبدي

منذ نحو عشر سنوات، لم يخبُ "أزيز الرصاص" في العالم العربي، ولم تتلاشَ "رائحة النعوش"، فما إن تهدأ جبهة حتى تشتعل أخرى، من العراق إلى اليمن مرورا بسوريا ولبنان وفلسطين وليس انتهاء بالسودان وليبيا و"الصحراء الغربية"، حيث تتأهب "البوليساريو" لنزال جديد، كما تقول أحدث التقارير.

وبعيدا عن حصيلة الهزائم والانتصارات، فإن ما سمي بــ"ثورات الربيع العربي"، وما رافقها من "كر وفر" قد أثمرت، ربما، في موضع وحيد، وهو "التنظير العسكري"، إذ أسهمت في إيقاظ النجومية المنطفئة لضباط عسكريين كبار، كانوا قد أحيلوا إلى التقاعد، دون أن يحوي أرشيفهم المهني أي انتصار عسكري يذكر، حينما كانوا على رأس عملهم، غير أن الفضائيات أعادت لهم الاعتبار، وأتاحت لهم مساحة لـ "المناورة" في الاستوديوهات، بعد أن أخفقت مناوراتهم في "ساحات الوغى".

جيش من العسكريين الكبار والمحللين الاستراتيجيين الذين ركنوا إلى الظل، لسنوات طويلة، وجدوا أنفسهم، مع الشرارة الأولى التي التهمت جسد الشاب التونسي البوعزيزي، موضع اهتمام، لتشع صورهم على وقع المعارك المستعرة والتفجيرات والغارات والقصف والمناورات العسكرية والتدخلات الخارجية في أكثر من بلد عربي، والتي تتوالى فصولها إلى أيامنا هذه.

كان لا بد لهذا "المشهد العسكري" العاصف والمضطرب أن يتسرب إلى الشاشات التي استنجدت بأولئك الضباط والمحللين العسكريين كي يشرحوا للمشاهد المدى المجدي لبندقية "الكلاشينكوف"، والقوة التدميرية لطن من مادة الـ "تي. ان. تي"، ونسبة الخطأ في إصابة الهدف لصواريخ أرض أرض، ومعنى الصواريخ البالستية، وقدرات المفاعل النووي، وتأثير التوقيت ودور الطقس في الحروب، والخطط العسكرية للفرقاء المتحاربين.. وسواها من تفاصيل المعارك والاشتباكات المدعومة بقاموس من المصطلحات والتعابير العسكرية التي باتت مألوفة ورائجة، فضلا عن قائمة لا تحصى من أسماء الأمكنة والبلدات والقرى والأحياء، لدرجة أصبحت معها إدلب السورية المنسية أكثر شهرة من بروكسل، وحارة الطيونة في بيروت أكثر شهرة من بروكلين النيويوركية.

لكن مهلا، هل ما يقوله هؤلاء العسكريون له كل هذه الأهمية حتى تتيح لهم الشاشات كل هذه المساحة؟ بالطبع لا، فالتبرير الوحيد لهذا التهافت على المحللين العسكريين هو نزعة الثرثرة التي تطغى على الفضائيات التي لا بد لها من أن تبث على مدار اليوم غث الأخبار وسمينها، فما الذي سيفيد المشاهد إن عرف مقاسات ووزن الدبابة التي دمرت منزله؟ وما الذي سيشفع لأم ثكلى إذا عرفت "قياس الرصاصة" التي أفقدتها فلذة كبدها؟ وكيف ستستعيد الطفلة اللاجئة ثقتها بطائرتها الورقية بعدما أتت حمم مقاتلة على مدرستها وحولتها أطلالا؟

وما يزيد الطين بلة، هو أن هؤلاء العسكريين لا يكتفون بالمعلومات العسكرية البحت، ذلك أن جاذبية الشاشة تنعش "قريحتهم السياسية"، وهنا، تظهر مشكلة غير محسوبة العواقب، تتمثل في أن الموقف السياسي يؤثر على "حيادية المعلومة العسكرية"، إذ لا يتوانى المحلل العسكري العتيد عن التقليل من قدرات الطرف الذي يعارضه، ويعلي من شأن الطرف الذي يواليه، وهو ما قد يخلق نوعا من "التضليل العسكري"، ناهيك عن تأجيج الخصومات، المتأججة أصلا.

في رواية "ليس لدى الجنرال من يكاتبه" يتناول الروائي الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز قصة جنرال عجوز متقاعد يذهب إلى المرفأ، باستمرار، لينتظر وصول الرسالة الرسمية ردًا على مطالبته العادلة بحقوقه مقابل الخدمات التي قدّمها للوطن، ولكن الوطن لا يأبه به، غير أن بعض جنرالات العالم العربي وجدوا من يلتفت إليهم وينتشلهم من العزلة ويسبغ عليهم نجومية طارئة بعدما فقدوا "النجوم على أكتافهم". لكن حين يخفت هدير الطائرات وأزيز الرصاص، فإن تلك النجومية ستخبو، مجددا، وبانتظار ذلك علينا أن نتهيأ للكثير من الدروس العسكرية المملة؛ ذلك أن الحروب لن تضع أوزارها قريبا، وفق ما يقول جنرالات الجبهات، هذه المرة، لا الشاشات.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com