راحوا البيضات
راحوا البيضاتراحوا البيضات

راحوا البيضات

نظير مجلي

أصدقائي في سخنين يروون طرفة عن أحد البسطاء الطيبين، الذين اتفقنا على تسميته "جميل"، أن حماته أرسلته ليشتري لها كرتونة بيض. كان ذلك في زمن، اعتبر فيه البيض غذاء ثمينا. من يشتري كرتونة تحتوي على 30 بيضة، يعتبر ميسورا.

في طريقه الى بيتها، كان يحمل الكرتونة بكلتا يديه. ويسير بحذر شديد في الطرقات المحفرة. يفتح عينيه جيدا. يتفادى السيارات والآدميين حتى لا يتعثر، فتنكسر بيضة، ويسقط في أحد اختباراتها الكثيرة. لامتحان شطارته. وقد لاحظ فجأة أن قشرة موز ملقاة على الطريق أمامه، على بعد بضع عشرات الأمتار. فراح يصيح في داخله: "راحوا البيضات". يتقدم بخطواته الحذرة ويواصل الهمس: "راحوا البيضات". ويواصل التقدم ويواصل النذير "راحوا البيضات". وبالفعل، وصل الى قشرة الموز وانزلق بها وسقطت الكرتونة من بين يديه ووقع أرضا وراحوا البيضات فعلا.

كانت تروى كطرفة فقط، لكنها اليوم راحت تضرب مثلا. وصارت حكاية ذات مغزى سياسي تذكرنا بتصرفات عدد غير قليل عندنا من القادة، فهم يرون الخطر ماثلا امامهم عن بعد، ولديهم مسافة كافية ليتجنبوا خطر السقوط، وعندهم الوعي والمعرفة بأن الدوس على قشرة الموز سيجعلهم يتعثرون فتسقط الكرتونة وتنكسر البيضات، ومع ذلك يدوسون وينزلقون.

ونبدأ بالعرب في إسرائيل، الذين تعتبر سخنين المذكورة أعلاه، واحدة من مدنهم المشرقة. فنحن نعاني منذ سنوات من ظاهرة مريعة، هي انتشار العنف المجتمعي: منذ مطلع السنة قتل عندنا أكثر من مئة شخص. ووقعت أكثر من خمسمئة حادثة إجرام، بينها عشرات حوادث الثأر. بعض جرائم القتل هذه بدأت بخلاف بين سائقين على حق أولوية المرور في الشارع، أو بشجار بين ولدين في المدرسة تحول إلى طوش عمومية بين الكبار. وبعضها جاءت كتعبير عن خروج امرأة عن "النص"، فخانت زوجها وتحولت القضية الى مساس بـ"شرف العائلة"، مع الإشارة الى ان خروج الرجل عن النص شرعي مجاز. ومع انتشار ظواهر البطر المالي والجشع للنقود والركض وراء الربح السهل، تفاقمت جرائم تحصيل الديون المتأخرة. فمن لا يسدد الدين في الموعد، يتعرض لإطلاق الرصاص على بيته أو حانوته أو سيارته وربما على ولده.

وإذا كنا، نحن العرب الفلسطينيين في إسرائيل، نشكل ما يعادل 19% من مجموع السكان فإن جرائم القتل التي "نحرزها" تشكل 70% من جرائم القتل في الدولة العبرية، وفي بقية الجرائم نشكل 40%، وفي عدد السجناء نشكل 45%، وهذه النتائج لا تقلقنا فحسب، بل تقلق أيضا أهلنا الفلسطينيين في كل مكان وتزعج اشقاءنا العرب وكثيرا ما نتلقى تساؤلات عن سبب هذه الظاهرة. فيقولون: "أنتم الذين عرفنا فيكم النشاط الوطني المشرف والإنجازات الكبيرة في العلوم والثقافة والفنون، ما لكم لا تنجحون في كبح الانفلات في الجرائم؟".

القيادة عندنا تحمل الشرطة الإسرائيلية مسؤولية أساسية عن هذه الظواهر، لأنها لا تعالج العنف كما يجب، وهناك في قياداتنا القومية والدينية من يرى أن هذه الجرائم تأتي في إطار مخطط وضعته الأجهزة الإسرائيلية الأمنية. فعندما ننشغل في الجرائم، يقل انشغالنا في القضايا الوطنية ويخف نضالنا ضد الاحتلال وضد سياسة التمييز العنصر. "إنها مؤامرة صهيونية بشعة"، يقولون بثقة بالغة.

والصحيح أنه يوجد أساس لهذا الاتهام، وهو ليس نابعا فقط من نظرية المؤامرة التي تتحكم بعقولنا. فالشرطة الإسرائيلية فعلا مقصرة في مكافحة العنف عندنا. وهناك قوى في المؤسسات الإسرائيلية الأمنية ذات سوابق في سياسة "فرق تسد".

ولكن، طالما أننا نعي بأن "هناك مؤامرة لتفسخنا" و"إجهاض نضالاتنا" و"تفكيك قدراتنا" و"تنفيس نجاحاتنا"، فبالله عليكم، لماذا نتبرع لتحقيق أهداف هذه المؤامرة بأيدينا؟ لماذا نتطوع لخدمة مطامع الراغبين بضرب إنجازاتنا وطعن التقدم في مسارنا؟ لماذا نسمح لأولادنا بنشر ثقافة المسدس (مع الاعتذار للرشاشات وصواريخ لاو، وبندقية ام 16 التي صارت تستخدم في فض خلافاتنا)؟ ومع أننا لا نبرئ السلطات الإسرائيلية من ذنوبها الكثيرة، نتساءل: إلى متى سنظل نستخدم إسرائيل علاقة، نضع عليها إخفاقاتنا ونتهمها بفشلنا ونحملها مسؤولية لجوئنا الى أساليب الجهل والتخلف؟

بالمناسبة، "جميل" صاحبنا السخنيني، وجد طريقة أخرى لشراء البيض لحماته، صار يغلف الكرتونة. وتوجه الى البلدية لتحسين مستوى النظافة. وتولى مبادرة في المدارس لكيلا يرموا قشر الموز وغيره في الشوارع. وباختصار، لم يعد يكسر البيضات.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com