لو أحسن اللبنانيون إدارة بلدهم
لو أحسن اللبنانيون إدارة بلدهملو أحسن اللبنانيون إدارة بلدهم

لو أحسن اللبنانيون إدارة بلدهم

يسأل كثير من المعلقين الأجانب على الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تنكّل بالحياة اليومية للبنانيين، وكذلك يسأل عدد من الزملاء المعلقين والكتاب العرب: أين اللبنانيون من هذا الذي يصيبهم؟ لماذا لا يفعلون شيئاً؟ ويصل الأمر إلى حد التشكيك في صحة ما تعرضه الشاشات عن الذل الذي يعانيه هذا الشعب للحصول على أبسط الحقوق التي صار يُعدّها أي مواطن في أي بلد، من أقصى الكرة الأرضية إلى اقصاها، حقوقاً بديهية، مثل: لقمة الخبز وحبة الدواء وصفيحة البنزين، وإضاءة غرفة الجلوس بنور يأتي مما يسمى كهرباء.
سبب التشكيك في صحة ما يشاهدون ويقرأون يعود إلى الصمت والخنوع الذي يواجه به اللبنانيون سرقة أموالهم من المصارف وأدويتهم من الصيدليات، وخبزهم من الأفران... لأنَّ أي شعب آخر كان سينقلب ويصرخ ويُسقط نظاماً ويحتجز مسؤولين عن الكارثة التي تصيبه، لو تعرض لأقل مما يتعرض له شعب لبنان.
قد يكون السؤال: أين هم اللبنانيون؟ سؤالاً ظالماً حقاً. والأشد ظلماً أن يسأله لبناني مثلي عن أهل بلده. أنا أتابع بحزن مشاهد تلك الطوابير أمام الأفران والصيدليات ومحطات البنزين. وأُدهش من هذه القدرة الاستثنائية على تحمّل هذا الشعب للظلم الذي يلحق به، بل قبوله... على أمل قدوم أيام أفضل كما يقولون.
خرج قسم لا بأس به من اللبنانيين إلى شوارع المدن والبلدات ذات يوم قبل عامين. تفاءلنا يومها أنَّ هناك شعباً سوف يتحرك. ولن يقبل ببقاء هذه العصابات قابضة على مصيره، مستغلة غرائزه الطائفية والعشائرية والمناطقية للتحكم في حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده. قلنا: هذه المرّة سوف يكون الولاء الوطني هو الذي يقود هذا الشعب. سوف تتحرَّر الرهينة من الولاءات والمصالح الضيقة، وسوف تنظر إلى مصلحة أرقى هي المصلحة الوطنية.
يسعى اللبنانيون وراء تفسيرات ومبررات كثيرة لما يصيبهم. من البحث عن مؤامرة خارجية أو لعبة دولية أو صراع نفوذ أميركي – روسي – إيراني على السطوة على مقدرات هذا البلد العظيم، الذي لا يهنأ النوم لأي دولة عظمى من دون السيطرة عليه. وهم يفعلون ذلك لسبب بسيط ووحيد، ليبرروا عجزهم (أو عدم رغبتهم) في تغيير أحوالهم. يُرضون غرورهم بالقول: لسنا مسؤولين عما يصيبنا، والأقدار التي تلعب بمصيرنا هي أقوى من قدرتنا على مواجهتها.
فعلوها من قبل في زمن الحرب الأهلية. ساروا خلف نظرية أطلق عليها في ذلك الوقت «حرب الآخرين». لم يكن قصد الصحافي الكبير غسان تويني الذي أطلق تلك التسمية أن يبرئ اللبنانيين مما فعلوه ببلدهم، وهو الذي كان من أكثر «الثوريين» رغبة في التغيير السياسي والاجتماعي في لبنان. كان قصده الحديث عن استغلال القوى الخارجية (السورية والفلسطينية والإسرائيلية...) للصراع الطائفي الداخلي، وتغذيته لتعزيز نفوذها على حسابه. وهو بالضبط ما حصل، أولاً من خلال الاحتلال الإسرائيلي، الذي تبعه «الانتداب» السوري، لتلحقهما اليوم الهيمنة الإيرانية. وكيف كان لهذه القوى الخارجية أن تتحكم في أوضاع لبنان، لولا أن «جماعاتها» اللبنانية تستدعيها وتستعين بها للاستقواء على «الجماعات» الأخرى؟
الأزمة المعيشية والاقتصادية التي يعاني منها اللبنانيون ليست بنت ساعتها. إنها نتيجة سنوات مديدة من فساد الإدارة وتراكم المديونية العامة من دون أن يوازنها ارتفاع في مداخيل الدولة، واستسهال مد اليد إلى المال العام من قِبل كل من يصل إلى موقع في الدولة يتيح له مد اليد. وهي نتيجة سوء إدارة وغياب أي أفق لتفكير مستقبلي ووضع خطط للتطوير وتحسين ظروف المجتمع، مثلما يحصل في أي بلد.
لكن المسألة ليست إدارية فقط. فالجانب السياسي الذي يضع المصلحة الحزبية والطائفية فوق المصلحة العامة يتحمَّل نصيباً كبيراً من المسؤولية عما وقع فيه البلد. وهنا نعود إلى السؤال: أين هم اللبنانيون؟ إنهم موزعون بين هذا الحزب وذاك وهذه الطائفة وتلك. ويجب أن نكون صريحين ونقول: إنَّ الهمَّ الوطني العام هو آخر همومهم، مع أنَّه الهمُّ الذي تُبنى الأوطان على أساسه، ويلتفُّ المواطنون حوله.
انعدام هذا الهم الوطني المشترك هو الذي يدفع كل قوة قادرة أن تستولي على ما استطاعت، وغالباً بمساعدة قوة خارجية. والتجربة الأخيرة هي ما يعانيه لبنان اليوم في ظل هيمنة «حزب الله»، وهي الهيمنة التي طالت كل المجالات وكل مستويات الحكم، وصولاً إلى رئاسة الجمهورية ومجلس النواب وقرارات الحكومة. وآخر مظاهرها وأفظعها قيام أحد كبار المسؤولين الأمنيين في «حزب الله» بلقاء كبار القضاة في لبنان في مكاتبهم، ونقل تهديد مباشر للقاضي الذي يتولَّى التحقيق في المسؤولية عن الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت.
في أي بلد طبيعي يُعدّ تدخلٌ من هذا النوع فضيحة مدوية. في لبنان، لا شيء. لا من الحكومة الجديدة ولا من رئاسة الجمهورية (بالطبع). وليس هناك من يفسّر بأي صفة يقوم مسؤول أمني في حزب مسلح بما يصح وصفه بـ«اقتحام» قصر العدل لتهديد قاضٍ؟
وغداً تطوى هذه الفضيحة ويذهب القاضي إلى بيته، إن لم يذهب إلى حتفه قبل ذلك... وينتهي الأمر، وكأن شيئاً لم يكن، فيما المسؤول الأمني، المعروف الهوية والعنوان، لا يجرؤ أحد على استجوابه!
اللبنانيون الذين يتفرجون على هذه المشاهد المخزية لا يرفُّ لهم جفنٌ. لا يرون في ذلك أي أمر استثنائي. حتى النقاش، مجرد النقاش، في دور هذا الحزب في الحياة العامة وهيمنته على صناعة القرار والأوامر العلنية التي يوجّهها زعيمه لكبار المسؤولين، بات من المستحيلات.
إنه سبب أساسي لانهيار مفهوم الدولة في لبنان. وهو وراء انهيار الاقتصاد ومستوى المعيشة وارتفاع معدلات الفقر. واللبنانيون المنتظرون في الطوابير التي أطلقوا عليها بحق «طوابير الذل» قد يأتيهم الفرج غداً على شكل مساعدة مالية أو قرض جديد. وقد يتأمن شيء من الخبز ومن البنزين، وقد تخف ساعات العتمة في ليالي الشتاء. لكن هذا الترقيع لن يصلح بلداً إن لم ينظر اللبنانيون إلى أحوالهم التعيسة ويغيروا ما بأنفسهم.

الشرق الأوسط

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com