شيء مما يقال بعد تصفية المعارض الفلسطيني
شيء مما يقال بعد تصفية المعارض الفلسطينيشيء مما يقال بعد تصفية المعارض الفلسطيني

شيء مما يقال بعد تصفية المعارض الفلسطيني

عدلي صادق

بعد أيام من صمت مسؤولي السلطة الفلسطينية عن جريمة قتل المعارض نزار بنات، دون مواساة أسرة القتيل، ولو من باب توزيع الأدوار؛ خرج رئيس حكومة هذه السلطة د.محمد اشتية بتصريح لقي استنكارا واسعا بدل أن يهدّئ الشارع ويحاول التحلي بقدر من التوازن. قدم التعازي في القتيل، كأنما على قاعدة أن “الرحمة تجوز على الكافر” ثم استطرد بكلام مضلل، جعل الناس تقول ليته لم يُدلِ بأي تصريح، وسيكون ذلك أكرم له. يتقلّد الرجل حقيبة وزارة الداخلية صوريا، كمن يتأبّط شرّا. وفي الوقت نفسه هو رئيس الحكومة، وقد أنبأ الفلسطينيين بأن تحقيقا يُجرى لمعرفة الذين قتلوا نزار بنات لكي يحالوا على القضاء. وكأن الذي يصرّح هو رئيس وزراء بلجيكا الذي يصعب عليه العلم بدواخل السلطة أو يصرّح في حال امتناع السلطات الفلسطينية عن مدّه ومد لجنة التحقيق بالمعلومات.

قال اشتية إن السلطات الفلسطينية حريصة على “استقلال القضاء وقراراته، واحترام حرية الصحافة والإعلام، والتحلي بروح المسؤولية العالية، وألاّ يتم حرف الأمر لصالح أجندات سياسية وحملات التشهير المأجورة”. وأضاف داعيا إلى “إبقاء الجهد الوطني منصبا على مواجهة الاحتلال وأدواته الاستعمارية في القدس وفلسطين عامة”. ولم يكن ما قاله الرجل، إلا كلاما من نوع الكذب المتعمد الذي يعلم تماما أن الحقيقة هي عكسه بالضبط. فقرارات المحاكم الفلسطينية، على الرغم من موالاتها لرئيس السلطة، لا تُحترم، ثم إنه شخصيا يعرف الفاعلين ولكنه يخادع ويحاول إقناع شعبه بأنه لا يزال يقص الأثر ويجهل الفاعلين، ومن أمر بتصفية الناشط المعارض. لكنه في الوقت نفسه يزعم أن له قوة زرقاء اليمامة في رؤية الشيء البعيد، إذ يحسم الأمر بشأن محركات الأحداث بعد الجريمة قائلا إن هناك مأجورين يحرّفون البوصلة لصالح أجندات سياسية مشبوهة. فالرجل لديه بوصلة، وهذه البوصلة سليمة ومضبوطة، وربما يعرف من خلالها كل أسماء المأجورين كما يعرف مبالغ أجورهم لقاء أتعابهم، وهو أيضا يحترم القانون، لكنه أيضا، لا يفسر للناس سبب عدم احتجاز أي مشتبه به، ممن يعِد بإحالتهم على المحاكم، تحقيقا للعدالة!

ذلك التصريح فتح بابا للسخرية والتندّر، وجاءت التعليقات حسب وعي أو شكاية كل متندّر، كأن يتساءل متضررون من الإقصاء والفصل التعسفي وقطع الرواتب الذي ترتب على قطعها تجويع أسر؛ لماذا لم يحترم اشتية قرارات القضاء الذي حكم بأن حرمان الموظف من راتبه تعسفي وليس له أي مبرر وقضى بإرجاعه؟ وتداعت الأسئلة ليقال: لماذا لا يُسأل وزير مالية السلطة عن قضيتين وجنحتين، الأولى الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية والثانية ممارسة فساد، إذ كان يتقاضى شهريا مبلغا كبيرا من مال المجتمع الفلسطيني تحت عنوان استئجار مسكن له في رام الله، بينما هو يسكن في منزله الذي يمتلكه. وكانت المسألة في ذلك المثال البسيط لا تحتاج إلى لجنة تحقيق ومحققين لأن وزير المالية في حكومة اشتية، اعترف بالجنحة ووعد هو وسائر السارقين بردّ المبالغ ولم يردّوها، فكيف يحترم هؤلاء القانون ويحترمون القضاء! فما حدث ولا يزال يحدث هو حدث تعزيز قبضة اللصوص على المال العام وعلى الأدوار العامة وعلى مواقع المسؤولية.

لكنّ طيفا آخر من الفلسطينيين ذهب إلى الأعمق وقال ساخرا “كفى استهبالا للناس، ففي حال إطلاق التصريحات على مسؤولي السلطة أن يتذكروا أن للفلسطينيين عيونا يرون بها وعقولا يفكرون بها، ومن يأنس في نفسه القدرة على الجزم، قبل أن تجزم بأن هناك مأجورين، وأن الصحافة تلقى الاحترام، عليه أن يتذكر بأن المشاهد المصورة سوف تكذبه. ثم إن البوصلة الوطنية التي يتحدث عنها رئيس الحكومة، يمكن الاستدلال على وجهتها من خلال تصريحات رئيس السلطة نفسه، بالصوت والصورة، عندما كان يؤكد المرة تلو الأخرى، على وجوب إعطاء إسرائيل المعلومة التي لا يحلم بالحصول عليها”.

في هذا الخضم الفلسطيني المُزري والمعقد سيكون أهم ما يقوله الراغبون في التهدئة، إن انتظار تقرير لجنة التحقيق ضروري ومهمّ على الرغم من شبه الإجماع على رفض هذه اللجنة برئاسة وزير العدل في حكومة اشتية أو التحفّظ عليها، واستباق تقريرها باتهامات صريحة أو ضمنية، بأنها تمثل الخصم والحكم. فعند صدور التقرير، سيكتشف الفلسطينيون أن قيادة السلطة عاجزة عن تنفيذ سطر واحد من التوصيات، التي يتوقع أن تشمل فقرات معقولة وشبه متوازنة. ذلك لأن من بين أخطر أعراض شيخوخة عباس هو العناد العقيم، ثم إن اعتقال أي واحد من الذين نفذوا الجريمة من شأنه أن يدفع المعتقل لأن يقول ما عنده، فهو محصّنٌ بما يعلم، فما بالنا إن كان الذي أمر بالضرب حتى الموت يعلم أكثر بكثير من الذين نفذوا، ويشمل ما يعلمه، العديد من القضايا التي كانت فيها تجاوزات فظة.

بعض الناس ممن يستشعرون المأزق عادوا إلى فيديوهات نزار بنات لكي يستخرجوا منها ما يظنونه مبرّر القتل. وكأن من حق سلطة الدولة التي هي في تعريفاتها المبسطة حامية لكل الناس مهما اختلفت آراؤهم، أن تقتل شخصا كانت له آراء تخالف رأس هرم السلطة أو حزبها.

ولعل من محاسن ردود الأفعال أن الغالبية العظمى ممن اختلفوا مع نزار بنات أدانوا الجريمة، وآخرهم مجلس وزراء السلطة نفسها. لكن أجهزة أمن هذه السلطة، تطيّرت من التظاهر لإدانة الجريمة علما وأن تظاهرات التأييد كما تظاهرات المعارضة، مكفولة بموجب القانون والوثيقة الدستورية، بل إن كل التظاهرات، سواء كانت تؤيد السلطة أو تعارضها، تُفيد النظام السياسي الفلسطيني لأنه في حاجة إلى شيء من المصداقية ولو بالنزر اليسير.

أما الذين اتهموا المتظاهرين بأنهم يحاولون تنفيذ فعل انقلابي، وزادوا في الاتهام وقالوا إن حماس يمكن أن تنتقل إلى حكم الضفة وتقع الكارثة، فهؤلاء لا عتب عليهم لأن الصدمة أربكت عناصر التفكير في رؤوسهم. فحماس إن حكمت الضفة، ستقضي على نفسها بنفسها لسبب واحد على الأقل، وهو أن حكم الضفة له شروط إسرائيلية أمنية، وبالتالي إن أعدى أعدائها يتمنّى لها أن تحكم على النقيض من خطابها السياسي فتندثر. الفارق بين حماس وفتح، أن الأخيرة ذات خطاب سياسي فيه بعض الهوامش التي يمكن أن تستفيد منها سلطة عباس، بالتقدم على طريق الدولة رغم أنف إسرائيل، وذلك في حالة واحدة فقط، وهي أن تنتج نظاما سياسيا رصينا يتحلّى بالتواضع والصمود والمثابرة والفهم الحقيقي للبعد الاجتماعي للسياسة ولطبيعة الأهداف الوطنية، ويرتّب أولوياته بطريقة صحيحة مع تكريس أخلاقيات العمل العام وضوابطه لكي تستعيد السلطة بالأداء المحترم، ولاء المجتمع والكتلة الشعبية في كل أماكن فلسطين والشتات.

لكن ما جرى ويجري، قتلا وقمعا وانتهاكا لحرية التعبير، لا يفيد السلطة وإنما يذهب بها إلى مطارح معيبة ويجعلها مكروهة أكثر ومترنّحة تنام على وسادة القلق أو آيلة للسقوط، وهذا أمر مُحزن، خاصة لمن يريدون إنقاذها لا إسقاطها.

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com