التهدئة الطويلة في غزة تتطلب قدراً من الحكمة
التهدئة الطويلة في غزة تتطلب قدراً من الحكمةالتهدئة الطويلة في غزة تتطلب قدراً من الحكمة

التهدئة الطويلة في غزة تتطلب قدراً من الحكمة

عدلي صادق

تدور الآن رحى اتصالات سياسية إقليمية، بهدف احتواء الحالة في غزة، لاسيما بمعطياتها الجديدة؛ سلاحاً فلسطينياً فوجئ الإقليم بحجمه، ودماراً فلسطينياً فوجئ العالم بوحشيته. وبدا أن كل هذه الاتصالات تتحاشى الخوض في الحل السياسي، وبالتالي يتضح أن أقصى ما يمكن أن يؤخذ من إسرائيل، في أزمتها السياسية الداخلية الراهنة، لا يتجاوز التفاهم على هدنة طويلة، مع اتفاق على تبادل أسرى مع حماس.

الأمر المهم الذي يُلاحظ هو أن الضاغطين يحاولون إقناع حماس بأن تنحو إلى استثمار إنجازها على مستوى الأداء العسكري، بطريقة أخرى غير الاستمرار في امتداح الذات. فما جرى في إطار معادلة القصف بالقصف، لا يسمح بالمبالغة في وصفه، طالما أن القصف الإسرائيلي أوقع خسائر جسيمة لم يوقع القصف الفلسطيني 5 في المئة منها، مع التسليم بأن هذا الأخير، كان كافياً لجلب الثناء، بحكم فائض القوة لدى الطرف الآخر، وادعائه بأنه مُحصّن ولا يمكن أن يُمس.

هناك تركيز، في رحى الاتصالات، على رئيس حركة حماس إسماعيل هنية أكثر من سواه. وهنا ترتسم ملاحظتان: الأولى، تتعلق بمستجدات العلاقة بين مصر وقطر، لاسيما وأن بعض أصداء هذه العلاقة، أدت إلى أن يرسل هنية، رسالة امتداح للدور المصري، بلغة لم تكن متاحة له قبلئذٍ، وبخاصة تلك التحية التي وجهها للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. فهكذا تحية كانت على رأس التابوهات القطرية ـ التركية قبل انفراج العلاقات. وليست قيادة حماس غافلة عن كون الدور المصري قد تأسس على تفاهم مصري – أميركي على تصفير مشكلة غزة، على المستوى العنفي، دون الاقتراب من فكرة حل النزاع برمّته.

وربما لن يمر وقت طويل حتى يصبح الطرف الأميركي نفسه معنياً بشكل من الاتصال مع حماس، في حال أظهرت هذه الحركة استعدادها لأن تتعاطى السياسة بمحدداتها الإقليمية والدولية. ويصح الافتراض هنا، أن القطريين تحديداً، وبتأييد من تركيا ومصر، معنيون بالتوصل إلى اتفاق تهدئة وهدنة طويلة، لذا كانوا حريصين على تذكير الأطراف الإقليمية، بجدارتهم في لعب هذا الدور. فقد تحدث وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني عن دورٍ واتصالات قطرية لم تنقطع مع إسرائيل، وكذلك مع حماس، لاحتواء التصعيد.

رئيس المكتب السياسي لحماس وجميع قادتها في الخارج، موجودون في كنف الدوحة وأنقرة. والعاصمتان تحتفظان بعلاقات راسخة ـ وليس بالضرورة حميمة ـ مع الإسرائيليين، وبالتالي يظل خيار حماس في الخارج، مُحددا ولا يتطابق مع رواية قادة الحركة نفسها في غزة، وهو يلتزم الخطاب الأيديولوجي الذي جعل المقاومة سياسة وحيدة. ففي الدوحة وأنقرة يجري تفكيك الخطاب، وهذا أمر لا يلام عليه الحمساويون، لأن من يغادر غزة، ويرى العالم، ويتتبع السياسات، يدرك أن خطاب الوعود القصوى، أصبح محبطاً أكثر من خطاب الرضوخ السياسي، لتعارض الأول مع منطق التفكير وأخذ الوقائع وموازين القوة ومصالح المجتمع الفلسطيني في كيفيات الحياة في الأراضي المحتلة والمحاصرة بعين الاعتبار.

أغلب الظن أن جواب قادة حماس في الخارج، على ما يُقال لهم من صحيح السياسة، هو أن قيادة العمل العسكري في غزة ترفض الحديث الذي يتجاوز مسألتي الهدنة والمطالب التفصيلية للحياة في غزة. وهذا الذي جعل موضوع تصريحاتهم مشكلة بالنسبة إلى الوسطاء، إن لم يكن أيضاً، مشكلة لقيادة حماس في الخارج. فلا تزال بعض التصريحات الارتجالية تضر بالقضية الفلسطينية وبثوابت الخطاب السياسي الوطني، كالقول بلسان قائد حماس في غزة يحيى السنوار إن لديه أو لدى حركة المقاومة عشرة آلاف استشهادي من سكان أراضي 1948.

مثل هذه التصريحات تنعكس ضرراً مؤكداً على المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وهم يناضلون سلمياً من أجل المساواة، ويطمحون إلى دولة لكل مواطنيها ويناضلون ضد منطق الفصل العنصري. فالغول الأصولي الاستيطاني المتطرف هو الذي يستفيد من هكذا تصريحات لتبرير انقضاضه على المواطنين العرب الفلسطينيين. إن هذا هو تحديداً، الأمر الذي جعل قيادة حماس العسكرية في غزة، هدفاً للأطراف الساعية إلى احتواء وضع غزة، لكي لا تظل “عنصر إثارة” في الإقليم. فمن المعتاد في الأحزاب أن يكون القرار عند قيادتها العامة، فلا يضطر الوسطاء إلى الحوار مع قيادة فرعية.

عندما نجزم أن سقف كل هذه الاتصالات، في رحاها الدائر، هو التهدئة طويلة الأمد، ومحاولة تثبيتها باتفاق على تبادل الأسرى؛ فإن السبب هو عدم جاهزية إسرائيل للخوض في مشروع تسوية، وافتقاد نظام محمود عباس للجدارة في أن يكون طرفاً. ذلك معناه أن الطرفين يمران بمرحلة عجز سياسي ودستوري، وليس لديهما زعماء قادرون على اتخاذ قرارات تاريخية، وبالتالي لا يستطيع الوسطاء التغاضي عن هذه الحقيقة. ففي إسرائيل، هناك جنرالات طامحون إلى أدوار سياسية، ورهانهم الأساس على حركة الاستيطان وجمهورها، وهذه لا علاقة لها بالسياسة.

أما الرجل الذي حاول أن يكرّس نفسه كزعيم تاريخي وأحد “ملوك إسرائيل” فقد انتقل منذ سنوات إلى حال الذعر الذي اضطره إلى دخول لعبة شد الحبل مع القضاء، لكي يؤجل محاكمته بتهم فساد. وعلى الجانب الفلسطيني، هناك رجل يزحف إلى سن التسعين، لم يستطع حتى القيام بتدابير بسيطة وشكلية متاحة، كأن يدعو أعضاء من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحري الفلسطينية ـ على هزالها ـ لحضور جلسة التصوير أثناء زيارات مسؤولين دوليين، ولا حتى أن يترك لوزير خارجيته كل مهمّاته كوزير للخارجية. فهو يكتفي أثناء الجلسة مع ضيف أجنبي، بحضور عنصر الاتصال مع الإسرائيليين وعناصر من السكرتاريا. فما بالنا عندما يتعلق الأمر ببنية النظام السياسي الذي يترأسه، وحاجته الماسة إلى المؤسسات.

موضوع التصريحات الحمساوية في غزة يؤرق الوسطاء، ويصعّب عليهم المهمة. ربما البعض من حماس يعتقد خطأ، أن أموال إعادة الإعمار سوف تتدفق، قبل أن يتأكد المساهمون في هذه الإعادة، بأن ما سوف يُبنى، لن يدمر مرة أخرى. وهذا الذي يجعل مسألة إعادة الإعمار سياسية بامتياز، ويجعل حماس مطالبة من الوسطاء والمانحين بأن تختار أحد الأمرين: إما بقاء الركام وتثبيت الخسارة على حساب أصحاب الأملاك والتسبب في حجب المساعدات عن أسر الضحايا، أو المرونة في التعاطي مع مقترحات الهدنة الطويلة التي يحتاجها الشعب الفلسطيني، والكف عن التصريحات المزلزلة، إن لم يكن بسبب حاجة غزة إلى التقاط الأنفاس واستعادة الدورة الاقتصادية الغائبة منذ سنوات طويلة، فليكن لإنقاذ القطاع من تداعيات وظواهر مرضية لم يعرفها المجتمع الفلسطيني من قبل.

بين خطاب الزلازل مع تضخيم القدرات العسكرية، وخطاب المهزومين في دواخلهم، الذين يذمّون المقاومة انطلاقا من حقائق الثمن الفادح الذي دفعه الناس، قاصدين رفض مبدأ حق الدفاع عن النفس؛ أصبح المرتجى بين الخيارين، قدر من الحكمة، لأن المسألة لا تتعلق بالمقاومة وحدها، وإنما بشعب وقضية ونزاع طويل الأمد، من أجل شيء من العدالة والحقوق الفلسطينية.

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com