بغير السياسة المعركة تنتهي والحرب تستمر
بغير السياسة المعركة تنتهي والحرب تستمربغير السياسة المعركة تنتهي والحرب تستمر

بغير السياسة المعركة تنتهي والحرب تستمر

عدلي صادق

فجر الجمعة، دخل وقف النار بين إسرائيل وغزة، حيّز التنفيذ. ولا موجب للذهاب إلى ردود الفعل الشعبية الفلسطينية في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ولنفترض أنها عاطفية، ولنسلّم جدلا أنها بالغت في الحديث عن نصر. لكننا إن تفحصنا ردود الفعل الإسرائيلية نفسها، نجد في تفصيلاتها ما يؤشر على أن إسرائيل أخفقت في مسعاها للقضاء على بُنية المقاومة الفلسطينية من الباب إلى المحراب، مثلما كان نتنياهو وغانتس ورئيس الأركان كوخافي يتعهدون. إن هذا يُعيدنا أولا ومرة أخرى إلى أسباب الحرب، وبالدرجة الأولى إلى سببها السياسي، ثم إلى نتائجها على هذا الصعيد.

معلوم أن الطيف الحزبي الإسرائيلي فشل بعد أربعة انتخابات عامة في تشكيل حكومة، وينوي الذهاب إلى انتخابات خامسة. وكان لافتا ولا يزال، أن اللاعبين الكبار، أحزابا وشخصيات، يتنافسون على وسط محدد من المجتمع الإسرائيلي، وهو وسط الأصوليين المتطرفين أصحاب مشروع استيطان الضفة بالقوة. ولو تُرك مصير تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، تحت رحمتهم؛ فإن أي تسوية لن ترى النور إلى الأبد. فهؤلاء، كما كل أصوليين متطرفين من كل دين، لا يطيقون السياسة بطبائعهم، ولا يفكرون بالحلول الوسط. وهم في إسرائيل تحديدا، حسموا أمرهم ويعتبرون أن النزاع مع الفلسطينيين من النوع التناحري، الذي لا ينتهي إلا بزوال أحد الضدين، لذا هم يزدادون في كل يوم، تصميما على إزالة الطرف الفلسطيني، شعبا ومجتمعا وممتلكات، في كل أراضي فلسطين التاريخية!

على الرغم من ذلك، لم يجد الممسكون بمقاليد الأمور في إسرائيل، لأنفسهم، ملاذا غير هذا الوسط الظلامي الذي يحتقر السياسة، بينما هؤلاء هم الصاعدون إلى منصتها. ولعل السبب في هذا التناقض، هو كونهم ركبوا موجة التطرف، كجنرالات حرب، أو “نجباء” الليكود، الذين رفعوا على مر العقود، راية فيها خارطة لفلسطين وشرق الأردن، تتوسطها بندقية، مرفقة بشعار من كلمتين، بالعبرية “رَكْ كاخا” ومعناها بالعربية “هكذا فقط”!

إن “هكذا فقط” تعني شطب السياسة والحرب المفتوحة. ولأن إسرائيل ليس فيها زعماء، ليست شريحة المتصدّرين للسياسة فيها، إلا محض جنرالات حروب وخريجي تلك المدرسة الليكودية، فإن هؤلاء يلعبون في مربع التنافسات الحزبية، ويجددون اختراع أسمائها ويغيّرون الاصطفافات، ولا يكفون عن السجال في ما بينهم. ولأن الخطر على إسرائيل سيكون خطرا عليهم جميعا، فإن عنصر التوافق بينهم هو الحفاظ على قوة الجيش، تجنيدا وتدريبا وتسليحا، مع صناعات عسكرية، ومنظومات أمنية، تفتح لهم أسواق السلاح للتربح وتأسيس علاقات.

في إسرائيل، لا يلجأ الصقور اليمينيون، النازل منهم والطالع في بورصة التنافسات الحزبية إلى ليبراليين أو ديمقراطيين أو يساريين أو حتى أساتذة جامعات يتحلون في أعمالهم البحثية في علوم التاريخ والاجتماع وغيرها، بقدر من الأمانة العلمية. لكن هؤلاء اليمينيون يتدربون على الخطابة التي يُلهبون بها حماسة المتطرفين، فمن يمتلك منهم ما استطاع من القدرة على دغدغة عواطف المستوطنين، أو غرائزهم، يعلو شأنه بقدر ما امتلك. وينبغي أن نعترف بأن حماس في بداية ظهورها، اتكأت على الخطاب المضاد، بمطلقاته القصوى، لكنها بالتجربة، وبما تراكم لديها من خبرات المواجهة الفعلية في جولات القتال، انزاحت إلى السياسة، حتى تطابق خطابها مع خطاب فتح، إذ إن كلتا الحركتين، التقطتا ما يُسمى “وثيقة الأسرى” واتخذتا منها، نظريا، صيغة توافقية لمشروع الاستقلال الفلسطيني وقيام الدولة. وفي محاذاة ذلك، ظل الطرف الإسرائيلي وحده، هو الراضخ للخطاب الأصولي المتطرف. فالطرف الفلسطيني، مجتمعا، ارتضى التسوية التي تؤمن له في الضفة والقدس 21 في المئة من مساحة أرض فلسطين، مع 1.3 في المئة لقطاع غزة. ففي هذه الأراضي، يعيش ما يزيد عن 6 مليون فلسطيني. لكن الطرف الأصولي الإسرائيلي المتطرف، يريد استيطان مساحة الضفة قاطبة، حتى ولو كان ثمن ذلك، استمرار الاحتلال العسكري واستمرار النزاع.

كان نتنياهو وغانتس، ومن بعدهما الطامحون المتربصون لهما ويودون الصعود، مثل جدعون ساعر، المنشق عن “الليكود” يمينا، وأصبح له حزب جديد سمّاه “أمل جديد”. فهؤلاء يلعبون لعبة القط والفأر في ساحة سياسية خلت لهم، ولم يُقصروا جميعا في التشهير ببعضهم البعض!

في مثل هذه الأوضاع، لم يكن نتنياهو في خضم محاولاته الإفلات من الإدانة في قضيتي فساد، قادرا على التصرف كرجل دولة، فيمنع المستوطنين المتطرفين، من اقتلاع سكان حي الشيخ جراح من بيوتهم ورميهم إلى لا مكان، وإحلال عناصر من بينهم في بيوت ليست لهم.

الانسداد السياسي، الذي ثابر عليه المتطرفون، مدركين أن مصير نتنياهو في أيديهم، فإن لم يُطعهم سيكونون جاهزين لإشهار سيف الدنس في وجهه، باعتباره “خائن الأمانة” وفاقد “الطهرانية”، لذا فإنه استشعر الخطر على مصيره السياسي، فانزاح عن مسؤوليات الدولة المعنية بحماية مواطنيها والمواطنين في أراضي تحتلها.

حركة حماس من جانبها، وجدت نفسها بعد أن تقبلت السياسة، واستخدمت مفرداتها أمام أفق مسدود في وجه عباس ووجهها، بمعنى القول الشائع “رضينا بالهم ولم يرض بنا”. وعندما نأخذ بعين الاعتبار أن حماس عندما تقبلت التسوية تعرض خطابها الذي جاءت بشفاعته للاهتزاز وزادته اهتزازا لقطات محيرة وتحسب عليها، كسماح إسرائيل لمندوب قطري بحمل حقائب الدولارات لها عبرها وربما عبر مصارفها. وعندما اندلعت الهبّة الشعبية في حي الشيخ جراح وجرى قمع السكان بوحشية، ثم جرى اجتياح المسجد الأقصى، وصل الشبان الفلسطينيون هناك إلى القناعة بتوجيه النداءات لحماس لكي تتدخل. فالكائن الأسطوري التوراتي، المدعو “شمشون” مدفون في غزة، كما يقال في ذات الأسطورة. لكن حماس التي تحكم غزة، وجدت من مصلحتها أن تتشبه بأفعاله دون أن تنتحل اسمه. ثم إن فلسفة ذلك الكائن الأسطوري، كانت في معركته الأخيرة، تقوم على فكرة “عليَّ وعلى أعدائي”.

لبّت حماس النداء، وأطلقت بعض ما لديها من الحمم، في نسق من الأداء، مُحكم ومن شأنه الحفاظ على قدرتها على الاستمرار، ودارت الحرب التي كتب عنها المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي، نائب رئيس تجرير صحيفة “هآرتس” ساخرا من الجيش المدجج بالسلاح، ومن الولايات المتحدة التي حرصت على تسمينه كالإوزة “لو كانت إسرائيل أقل قوة وتسليحا بقليل لكانت حذرة أكثر في أفعالها. زيادة القوة هذه تولد سلوكا وقحاً واستقوائيا وبربريا. والقوة ليست هي القوة العسكرية فقط، بل السياسية. العالم يسمح لإسرائيل بأن تفعل ما هو مسموح فعله لعدد قليل جدا من الدول. إنها قوة مُفسدَة، تعمل على إفساد إسرائيل. لا أحد سيوقفها، ولا أحد سيعاقبها على أفعالها. إذن، لمَ لا؟ هي تستطيع”.

ويستطرد جدعون ليفي “إن من يفعل ذلك مع إسرائيل كمن يقوم بتسمين الإوز. عندما يقول الرئيس الأميركي بايدن إن لإسرائيل حقا في الدفاع عن نفسها، دون أن يقيد ذلك بشيء، فإن البطاقة البيضاء المفسدة تعود، ويكون معناها، اقصفوا بقدر ما تستطيعون. أيها الأصدقاء الأعزاء، أنتم فقط تدافعون عن أنفسكم. وباسم هذا، فإنه مسموح لكم أي شيء. بعد ذلك، يبدو أن الرئيس الأميركي، يوقع أيضا على شيك آخر لتزويد المزيد من السلاح الذي ستستخدمه إسرائيل في الجولة القادمة”.

توقف التراشق بالنيران، وبتوقفه، قادة إسرائيل، فشلوا في القضاء على قوة حماس وفشلوا في استعادة جثث جنودهم عندها، وظهرت خشيتهم من دخول أراضي غزة، وفشلوا في الحصول على تأييد شعبي في الإقليم والعالم، وجلبوا لأنفسهم الإدانة على قتل الأطفال والنساء وسائر الأبرياء، وتعرضوا للضغوط من كل صوب، لوقف حرب الإبادة، بحكم فوارق لا تقبل المقارنة، بين تكنولوجيا التسليح وقدرات السلاح على جانبَيْ المواجهة!

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com