قرار الإمارات التصالح مع إسرائيل مفاجئ وجريء ومحير
قرار الإمارات التصالح مع إسرائيل مفاجئ وجريء ومحيرقرار الإمارات التصالح مع إسرائيل مفاجئ وجريء ومحير

قرار الإمارات التصالح مع إسرائيل مفاجئ وجريء ومحير

د.عبد الخالق عبد الله

كان يوم الخميس الموافق 13 آب (أغسطس) 2020 يومًا استثنائيًا في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة. ففي تمام الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم، أعلنت الإمارات قرارها السيادي بإقامة علاقات دبلوماسية، وتجارية، وإستراتيجية، كاملة مع إسرائيل.

وجاء قرار الإمارات التصالح والتطبيع مع إسرائيل مفاجئًا ومدهشًا للكل، وجسورًا وجريئًا للبعض ومربكًا ومحيرًا للبعض الآخر، فالقرار الإماراتي وضع نهاية لـ47 سنة من مقاطعة إسرائيل، وشطب بند العدو الإسرائيلي من الخطاب الإماراتي الشعبي والرسمي، وحوّل بقدرة قادر عدو الأمس إلى شريك المستقبل، وغيّر بجرة قلم قائمة الأصدقاء والأعداء، وألغى تابوهات كانت مستقرة لعقود، وأربك قواعد الاشتباك وأخرجها من سكونها، وعزز مقولة أينما تذهب الإمارات تذهب بقية دول المنطقة.

فكيف، ومتى، ولماذا، قررت الإمارات التصالح والتطبيع والاعتراف بإسرائيل دولةً مستقلةً كما تعترف بـ 192 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؟ ولماذا تم الإعلان عن هذا القرار في يوم 13 آب (أغسطس) وليس قبل أو بعد ذلك؟

جاء توقيت قرار الإمارات التصالح مع إسرائيل مفاجئًا فوق العادة للداخل قبل الخارج، وللقريب قبل البعيد على حد سواء، فالكل بمن فيهم أكثر الناس متابعة للشأن الإماراتي، بل إن أقرب المقربين لدوائر القرار في الإمارات تفاجأوا بهذا الإعلان وأصيبوا بالدهشة والصدمة.

لم يكن أحد من هؤلاء على علم بما يجري خلف الأبواب وبتوقيت هذا القرار سوى في الساعات الأخيرة قبل إعلانه. فقرار التصالح والتطبيع أُعدَّ على نار هادئة، وتم إنضاجه لأكثر من 6 أشهر من جانب لجنة مصغرة وضعت خريطة الطريق لاتفاق السلام الذي سيوقع هذا الأسبوع في واشنطن بحضور الرئيس الأمريكي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وغياب ولي عهد أبو ظبي.

كانت علاقة الإمارات بإسرائيل تتطور على أكثر من مستوى منذ العام 2007، وتسارعت بشكل حثيث خلال السنوات الأخيرة، ولم يعد في الإمكان إخفاء ما كان يجري خلف الكواليس. ثم جاءت مقالة سفير الإمارات في واشنطن في صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية بتاريخ 12 حزيران (يونيو) 2020 لتفتح الأبواب المغلقة على مصاريعها حين أشارت بوضوح شديد إلى أنه في حال وقف مسار الضم، فإن الإمارات مستعدة لإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل.

وقبل ذلك صرح وزير الدولة الإماراتي لشؤون الخارجية أن سياسة مقاطعة إسرائيل المستمرة لنحو 70 سنة فاشلة، وحان وقت البحث عن بديل للمقاطعة. بعد ذلك تسارعت الخطوات بما فيها إرسال معونات طبية للشعب الفلسطيني عبر مطارات إسرائيلية، والتوقيع على اتفاقيات بين مؤسسات بحثية إماراتية وإسرائيلية لمكافحة فيروس كورونا.

العلاقات الإماراتية - الإسرائيلية بلغت طور النضوج، وتنبئ بحدوث اختراق كبير، وما تبقى مسألة وقت ليس إلا، وقد كانت المقدمات واضحة، لكن توقيت إعلان المصالحة ظل سرًا من أسرار الدولة، وخافيًا على أقرب المقربين.

لم يكن أحدهم يتوقع أن يتم إعلان التطبيع بهذه السرعة المذهلة لتسقط تابوهات عالقة منذ عقود، باعتبار إسرائيل أكبر أعداء الأمة، وفجأة انفتحت بقدرة قادر أبواب موصدة، وتدفقت مسارات التطبيع بكثافة ضاعفت من حيرة البعض تجاه ما يجري.

لذلك فإنه بقدر ما كان قرار التطبيع مع إسرائيل مفاجئًا ومدهشًا، جاء أيضًا مربكًا وصادمًا ومستفزًا للبعض. فالقرار بعثر العديد من الأوراق، وفتح الكثير من الآفاق المسدودة. وكانت السلطة الفلسطينية في مقدمة من استفزهم القرار، وذهبت أكثر من غيرها لإدانته. كما جاء قرار التطبيع صادمًا لقطاعات شعبية عربية رافضة من حيث المبدأ الاعتراف بالعدو الإسرائيلي الغاشم.

ولا شك أيضًا أن القرار فاجأ الداخل الإماراتي بأكثر مما يمكن تصوره وفي كل الاتجاهات. وكانت المفاجأة الكبرى انتهاج قطاعات شبابية تصرفات وكأنها حكومية أكثر من الحكومة، وقلة منها تلهفت للصلاة في القدس، وأخرى أخذت تسابق الزمن لزيارة تل أبيب للتعرف على المجتمع الإسرائيلي، كانت تلك أم المفاجآت. لكن هناك أيضًا من كان غير مصدق وغير مستعد نفسيًا للسير في التطبيع، رغم ثقته بقيادته ودولته التي تحتل الترتيب العالمي الثاني في مؤشر ثقة المواطن بحكومته وفق تقرير "أدلمان" لعام 2019.

قرار التصالح مع إسرائيل لم يكن مفاجئًا ومحيرًا فحسب، بل كان جريئًا، وأسس لصفحة جديدة في تحالفات الإمارات الإقليمية، وأعاد ترتيب قائمة الأصدقاء والأعداء، حيث أصبح عدو الأمس شريك المستقبل في منطقة تعج بالتحالفات الهلامية، وتعيش على وقع حركة الرمال المتحركة. إن قرار الإمارات توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل أكثر جرأة من دعوة "الحبيب بورقيبة" للاعتراف بإسرائيل العام 1965، وزيارة أنور السادات إلى القدس العام 1977، وتوقيع الأردن معاهدة وادي عربة العام 1994، واستقبال السلطان قابوس بن سعيد بنيامين نتنياهو في ديوانه السلطاني في مسقط العام 2019.

من يتابع الإمارات عن كثب يدرك أن جرأة القرار والتفكير خارج المألوف، وطرح مبادرات عملاقة، هي سمة أصيلة من سمات إمارات القرن الواحد والعشرين، ومن الأمور المعهودة بالنسبة إلى دبي وأبو ظبي وليست من الأمور غير المعهودة. وجميع قرارات الإمارات فيها من الجرأة الشيء الكثير، وأبرز مثال على جرأة القرار، المشاركة الضخمة في حرب اليمن، ومواجهة تركيا في ليبيا، والوقوف بكل ثقل بجانب مصر في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وقيادة المنطقة للتصدي لقوى العنف والفوضى، وكونها الدولة الخليجية الأولى التي تستقبل بابا الفاتيكان، وتقرر بناء بيت العائلة الإبراهيمية، وتؤسس لمتحف اللوفر أبو ظبي، علاوة على قرار إرسال مسبار إلى كوكب المريخ، وبناء أول مفاعل للطاقة النووية في العالم العربي، وقبل ذلك الجرأة ببناء أطول برج، وأكبر مطار، وأكبر ميناء، وأكبر شركة طيران في العالم، والإصرار الذي لا يتزحزح أن تكون الإمارات الأولى في كل مؤشر تنموي ومعرفي حيوي ليس على المستويين العربي والخليجي فحسب بل على الصعيد العالمي.

كل ذلك قليل من كثير على جرأة القرار الإماراتي، فالإمارات لم تعد دولة صغيرة، وهامشية، وهشة، وريعية، وتقليدية، كما يتوهم البعض، بل تملك مقومات وإمكانيات تؤهلها أن تكون في قائمة القوى الوسطى الصاعدة في العالم بما في ذلك قيادة طموحة تفكر في نطاق جيوسياسي، وجيوستراتيجي عالمي.

عندما تتخذ إمارات القرن الواحد والعشرين، قرارًا تاريخيًا بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في واشنطن، فإما أن يكون هذا القرار مدهشًا ومفاجئًا وخارجًا عن المألوف أو لا يكون. هكذا جاء قرار التصالح والتطبيع مع إسرائيل، وهذا هو قدر الإمارات التي تعيش لحظتها في التاريخ.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com