السلطة الفلسطينية.. المشروعية بمحض استذكار الراحلين
السلطة الفلسطينية.. المشروعية بمحض استذكار الراحلينالسلطة الفلسطينية.. المشروعية بمحض استذكار الراحلين

السلطة الفلسطينية.. المشروعية بمحض استذكار الراحلين

عدلي صادق

في السادس عشر من الشهر الجاري، حلّت الذكرى الثانية والثلاثين لعملية الإغارة الإسرائيلية، في العام 1988 بمجموعة من المغاوير، على منزل القائد العام العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس خليل الوزير (أبوجهاد)، وقد نتج عنها اغتيال ذلك الرجل المُقدّر، في ذروة اضطلاعه بدوره في تحريك الانتفاضة الشعبية الفلسطينية طلبا للاستقلال. تركه المُغيرون جثة مصابة بوابل من الرصاص، مع حطام مسدسه الذي حاول به أن يقاوم.

وبحكم الأوضاع الفلسطينية المتردية الآن على كافة المستويات، بعد السنين الطويلة التي مرت منذ ذلك الحدث؛ رُتبت في رام الله جلسة إحياء للذكرى، كان المتحدث الرئيسي فيها رئيس الحكومة د. محمد اشتية، وهو من جيل متأخر في صفوف العمل الفلسطيني الوطني. ارتجل الرجل كلمة حماسية ركزت في معظمها على مناقب القائد الراحل، وأعادت الحاضرين إلى زمن مضى، فاستثارت أشجانهم بما تخللها من فقرات انتقاها الخطيب، مما كُتب عن تجربة الشهيد خليل الوزير.

وفي الحقيقة، بدا لافتا خلال السنوات العجاف الأخيرة، لاسيما بعد أن تشكل الانسداد على كل صعيد؛ أن رجال السلطة الفلسطينية تعمدوا التركيز على إحياء مناسبات الذكرى، وقد استُخدم هذا الإحياء لدفع الإحباط من خلال استرجاع مآثر السابقين. وشكلت وقفتا إحياء ذكرى انطلاقة “فتح” ووفاة ياسر عرفات، مسموما وشهيدا مثلما أراد؛ مناسبتين للحشد الأكبر في الهواء الطلق، وما يتخلله من مكبرات الصوت الضخمة، التي تنبعث منها الأناشيد والخطابات والشعارات.

وكان للمناسبتين دائما مقاصد عدة، ليس من بينها إعادة تقييم تجربة السلطة أو تجربة الفصيل الراعي للاحتفالية، أو الاستئناس بالحشود الغفيرة، للذهاب إلى عملية إصلاح، أو حتى التقدم خطوة في اتجاه إنصاف الناس التي احتشدت، أو التراجع مترا واحدا للتقليل من المسافة التي قطعها القائمون على أمر السلطة وحركة فتح، ابتعادا عن القواعد الناظمة لعملهما كإطارين يُفترض أن لهما أنظمة ومحددات قانونية ووثيقة دستورية. بل إن العكس ظل كامنا في جوهر المقاصد، بحكم كون التحشيد محض اختبار لمدى قدرة الشعب الفلسطيني على التجاوز عن سيئات نظامهم السياسي، وأيضا بحكم كونه موصولا بضرورات تظهير المشروعية التي أفقدتها الممارسات، ونفاد المدة الزمنية للتفويض صدقيتها.

لذا كان الأمر، من جانب الجماهير التي احتشدت، مختلفا عنه في أذهان من دعوا إليه واضطروا إلى دفع كلفته وتوفير احتياجات من ينظمونه. وللحق، ينطبق هذا الأمر على كل حشد فصائلي فلسطيني، في إطار منافسات بين باحثين عن تأكيد مشروعيتهم، بالوسيلة الوحيدة المتاحة، وهي حث الحشود في غزة. فلا صناديق اقتراع تحسم، ولا طرف لديه الاستعداد لأن يقدم للناس حقوقها الأساسية، ولا أن يفسر لها ما يجري سياسيا، ولا أن يعرض خطة عمل. فالعكس هو الصحيح، لأن الذي أريد من الحشود في تجلياتها الكثيفة، سواء على مستوى فتح التي انقسمت، أو حماس التي دخلت إلى مأزقها؛ أن تؤدي وظيفة الإبقاء على حال الانقسام على قاعدة أن كل حشد يوفر لأصحابه فرضيات الصواب والمشروعية!

في ثنايا هذه الحال هناك أمر لافت، وهو أن حشد نحو مئتي أو ثلاثمئة ألف لمناسبة إحياء ذكرى، يُتاح للفصائل الفلسطينية في غزة ولا يتاح في الضفة، وعليه يكون الموقف في الضفة أكثر شفافية في التعبير عن حقيقة ما استقر في وعي الجماهير الفلسطينية قاطبة من تقييم موضوعي للفصائل وتجاربها، والسبب في ذلك أن المجتمع الفلسطيني في الضفة أقل اضطرارا واستعدادا لمجاملتها أو التجاوز عن تحفظاته عليها، وهو أقل احتياجا لها. ثم إن السلطة المعترف بها إقليميا ودوليا توجد في الضفة، وبات موقف الشعب الفلسطيني منها يتسم بالفتور والانتظار لأسباب طبيعية ومفهومة، إن لم يكن لديه موقف سلبي منها، مثلما هو الحال بالنسبة لحماس في غزة.

في واقع الأمر، يحدث للمرة الأولى في تاريخ الشعب الفلسطيني أن أصبحت الكتلة الشعبية، بما فيها كُتل الحشود في غزة بعد انفضاضها؛ غير ملتصقة بالنُخب السياسية. فهذه النُخب لم تعط الجماهير الشعبية حقها في الاختيار والتغيير. ولم تعد الحكومات ملزمة بعرض بيان وزاري تحصل بعده على مصادقة ممثلي الشعب، ولا هي عُرضة للمساءلة البرلمانية، وهي قائمة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، تحت عنوان الطوارئ أو تسيير الأعمال لأن المؤسسة التشريعية غائبة منذ العام 2007.

ومن المفارقات أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يدفع إلى هذه الوقفات الشعبية، وهو لا يستسيغ لغتها “الثورية”، فهو يريد الحشد بحد ذاته لتسجيل رسالة إلى الداخل الفلسطيني على أن يحتفظ هو بلغته السياسية مع عدم إقراره بضرورة استنادها – على بؤسها قياسا على لغة التحرر الوطني – إلى نظام سياسي تحكمه المؤسسات وتكون له مآثره الجاذبة للتأييد الشعبي.

في خطاب رئيس الحكومة محمد اشتية بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد القائد خليل الوزير؛ سُمع التكثيف الرمزي لانفصال الكتلة الشعبية عن النُخب السياسية، من خلال إشارة اشتية إلى أن هذه النخب تعيش الآن موسم قطاف ثمرات الزرع الذي غرسه “أبوجهاد” والسابقون، وأن السلطة هي المُنجز الوطني الذي يفاخر به القائمون عليه، على الرغم من كون الأحوال “تنزل قليلا أو تعلو” لكن الثمر هو الثمر!

في الحقيقة، ليس أدل على واقع الانفصال من هذه العبارات. فالرجل لم يقل للحاضرين أي قطاف يقطف بالضبط ومن أي حقل؟ بالتأكيد هو لا يقصد ثمار النصر، ولا ثمار وقف التوسع الاستيطاني، بمفاعيل المقاومة “الذكية” التي دعا إليها هو نفسه دون أن يمارسها أو يفسرها، وليس لديه ما يؤكد على أن هناك ثمارا قوامها سعادة الفلسطينيين وبحبوحتهم، ولا ثمار التحرر من المظالم التي أنزلتها السلطة على أسر موظفيها ومناضليها والمجتمع، ولا ثمار تغييب المؤسسات الدستورية، ولا ثمار التمكين للإرادة الشعبية أو ثمار “التنسيق الأمني”. بل هو – للأسف- لا يستطيع أن يجيب بصراحة عن سؤال أهم: هل الاحتلال الإسرائيلي سيغضب أم يفرح إن بادرت السلطة التي يفاخر بإحرازها إلى الانسحاب من المشهد، احتجاجا على التوسع الاستيطاني والتعديات اليومية على الشعب الفلسطيني دون أن تستثني مناطق السيطرة الشرطية لهذه السلطة؟

هو- قطعا – لن يستطيع القول إن سلطة الاحتلال الإسرائيلية ستكون سعيدة بغياب فيزيائي للسلطة أو بإصلاح ديمقراطي لها. فما يسعدها هو وجودها الفيزيائي في حالتها الراهنة، إذ تحافظ مع شقيقتها الحمساوية على الانقسام، وعلى عدم التمكين للإرادة الشعبية، وعلى أداء دور وظيفي يلائمها ويرفع عنها الكثير من الأعباء، ويحافظ على وضعها كسلطة تتوسل تصاريح الموافقة على حركتها وتنتظر الإغاثة والدعم في ظل وضع يتسم بكل جوانب الضعف والهُزال، التي لا تدحضها الخطابات الرنانة!

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com