زقزوق.. العالِم ومفكر التجديد
زقزوق.. العالِم ومفكر التجديدزقزوق.. العالِم ومفكر التجديد

زقزوق.. العالِم ومفكر التجديد

رضوان السيد

عرفتُ الدكتور محمود زقزوق عام 1968 عندما كنت طالباً بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر. كان عائداً بالدكتوراه من ألمانيا وقد درّسَنا لثلاث سنوات موادّ الفلسفة الحديثة وعلم الكلام والاستشراق. كان حيياً خفيض الصوت لا تغادر البسمةُ شفتيه. وبعد نحو سنتين صدر كتابه عن الغزالي وديكارت، وكان موضوع أطروحته بجامعة ميونيخ بألمانيا. في صفّه تعرفنا على أساتذة آخرين ومعيدين وطلاب كانوا يتابعون دراساتهم العليا. كما انعقدت من حوله الصداقة مع الشيخ أحمد الطيب الذي صار فيما بعد مفتياً لمصر فشيخاً للأزهر منذ عام 2010. كنا يافعين وأمامنا طريق طويل، لكنني وزملائي الشوام بدأنا نفكر تقليداً لزقزوق بالذهاب للدراسات العليا في الخارج. وما فكر زملاؤنا المصريون بطريقةٍ مختلفة، فقد رأيتُ بعدها بعشر سنوات زميلي في الصف ومنافسي على الأولية يحضّر للدكتوراه بجامعة بون بألمانيا، بينما كنتُ أنا قد استطعتُ الذهاب عام 1972، وتخرجتُ عام 1977. لكنّ «مولانا» الطيب آثر منذ البداية الذهاب إلى السوربون شأن شيخنا الآخر الدكتور عبد الحليم محمود. كان الدكتور محمود يدرّسنا التصوف، وهو صوفي شاذلي، ثم صار عميداً لكلية أصول الدين، فوزيراً للأوقاف. وقد درس في الأربعينيات على يد ماسينيون وكتب أُطروحةً عن المُحاسبي أحد زهاد القرن الثالث الهجري.

لماذا هذا الاستطراد كلّه، والموضوع هو تأبين الدكتور زقزوق الذي توفي قبل أربعة أيامٍ عن عُمُرٍ مباركٍ وعال؟ لأنّ الدكتور زقزوق بقصدٍ أو بدون قصدٍ صار قلباً في حلقةٍ من الزملاء والطلاب الأذكياء المتطلعين للإصلاح والتجديد. وتوالت دراساته وكتبه التي جمعها في عشرة مجلداتٍ ضخمةٍ عام 2010. وفي غير التأليف أسهم في التجديد الكلامي والفلسفي عندما صار عميداً لكلية أصول الدين. وعندما صار وزيراً للأوقاف في التسعينيات صرنا نقصده في مكتبه كما نقصد مكتب شيخ الأزهر. بيد أنّ فرصته لجمع الكبار والشبان المتحمسين للعمل، جاءت كما قال لي عندما صار بحكم عمله في وزارة الأوقاف، مشرفاً على المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي كان ينشر كثيراً، كما يعقد مؤتمراً سنوياً يحضره علماء العالم الإسلامي. وضع زقزوق برنامجاً لموضوعات المؤتمرات، وبرنامجاً للمنشورات وتابع ذلك على مدى خمسة عشر عاماً. وقد تعاون مع الدكتور أحمد الطيب عندما كان رئيساً لجامعة الأزهر في إنشاء الرابطة العالمية لخريجي الأزهر الشريف.

ظل زقزوق وزيراً للأوقاف حتى يناير 2011. وعندما عرضوا عليه البقاء اعتذر. سألتُه: لماذا لم تبق للحفاظ على شيء من التماسُك وسط الثوران في أوساط الجهاز الديني؟ فقال: لقد قاربتُ الثمانين، وأنا لا أُحبُّ الثورات التي تكون ذات مطالب محقة، لكن تعلو فيها أصوات المتطرفين والانتهازيين، وأخيراً فقد سمعتُ كثيرين جدداً يعتبرون أنفسهم أعلم بالإسلام وأحرص عليه من الأزهر والأزهريين!

عنون زقزوق كتابه الأول «الاستشراق والصراع الحضاري»، وعنى بذلك أنّ بحوث المستشرقين كانت في وجهٍ من وجوهها استمراراً لحروب العصور الوسطى. لكنه رأى في حوار الأديان منافذ وإمكانياتٍ لعلاقات دينية وثقافية جديدة. وقد رأيتُه آخر مرة في أبوظبي خلال مؤتمر الأُخوة الإنسانية في فبراير 2019 حيث أعلن كلٌّ من البابا وشيخ الأزهر «وثيقة الاخوة الإنسانية»، وقال لي إن نصها نادر المثال، وعلينا أن نتأهل ونؤهل شبابنا لنكون في مستواه. رحم الله الدكتور زقزوق رجل الفكر والنهضة والتنوير.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com