العبرة من واقعة عامر الفاخوري
العبرة من واقعة عامر الفاخوريالعبرة من واقعة عامر الفاخوري

العبرة من واقعة عامر الفاخوري

عدلي صادق

ترمز عملية التدخل الأميركي المشهود، لإجلاء عامر الفاخوري من لبنان، إلى البون الكبير بين كلام العاطفة ووقائع السياسة. فالرجل متهم بجرائم قتل وتعذيب، في سجن الخيام، في الفترة بين عامي 1980 و1990 إبّان سيطرة جيش أنطوان لحد على الجنوب بدعم إسرائيلي. وجاء إجلاؤه، بمروحية أميركية، من مبنى السفارة الأميركية، في إهاب مفاجأة صادمة، لمن أطنبوا في الحديث عن خيانة المذكور.

وعلى الجانب الآخر، أحس الأميركيون بنشوة النصر، باعتبارهم أنقذوا رجلاً يحمل الجنسية الأميركية وموالياً لإسرائيل، وجنّدوا لإطلاقه، وزراء وسفراء وجنرالات ومحامين وأعضاء كونغرس من الحزبين، كان على رأسهم جميعاً السناتورة جيان شاهين، عقيلة السياسي الأميركي من أصل لبناني بيل شاهين، والسيناتور تيد كروز.

إطلاق عامر الفاخوري، لتمكينه من الهرب، له مغزاه في السياسة. فقد امتشق فريق العمل الأميركي؛ قانوناً أميركياً أسموْهُ “قانون التسامح الصفري” الذي ينص على فرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين الضالعين في اعتقال أيّ مواطن أميركي في لبنان، أو الإساءة إليه.

وعندما يجري تفعيل القانون، في بلد يرتهن، تماما، إلى أصحاب خطاب ذي مُطلقات قصوى مضادة للسياسة الأميركية؛ يصبح الأمر جديراً بالتأمل العميق وأخذ العبرة، لاسيما وأن الفريق الكبير الذي اشتغل على تخليص الفاخوري من أيّ محاكمة، لم يكن يركّز على القضاة اللبنانيين وإنما على رجال السياسة. ولهذا كان من بين أوائل الذين شكرتهم أسرة الفاخوري، السفيرة الأميركية لدى لبنان. وهذه لم تجتهد في الاتصال مع قضاة وإنما مع ساسة، وعلى من رئيس الجمهورية فما دون.

وجاءت المفاجأة في سرعة حسم الأمر لصالح الطرف الأميركي، في الوقت الذي ظن فيه الناس البسطاء أن القضية ستدخل فصولا من التنازع والتجاذب، على الصعيدين، الداخلي اللبناني، وعلاقة لبنان بالولايات المتحدة الأميركية، لاسيما وأن أولياء الدم أو أولياء الجُرح، في لبنان، هم الثنائي الشيعي حصراً، ممثلاً في “حزب الله” ذي الخطاب المُرعد، و”حركة أمل” المساندة له في الحديث عن صلابة المقاومة وحقها في الغلبة السياسية تبعاً للغلبة العسكرية!

اللافت أن عملية المفاجأة اكتملت بمفارقتين، الأولى أن رئيس هيئة القضاء العسكري، التي قررت إطلاق الفاخوري في عملية تحايل قضائي مفتعلة، هو العميد حسين عبدالله، وهو شيعي أولاً، ويتحدر – ثانياً – من بلدة “الخيّام” نفسها، مسرح الجرائم الذي اتُهم فيها الفاخوري، وثالثاً هو الرجل نفسه الذي هللت له الصحافة اللبنانية الموالية لـ”حزب الله” في منتصف العام 2018 كبطل استطاع أن يسجل موقفاً وطنياً ثانياً، بعد الذي سجله في العام 2014 عندما أصدر بحق الصحافية اللبنانية حنين غدار حكماً يقضي بسجنها ستة أشهر على خلفية ما قالته عن الجيش اللبناني في محاضرة ألقتها في واشنطن. وكان الموقف الثاني، الذي استوجب التهليل، حُكمه على امرأة لبنانية في العام 2018 بالسجن، لأنها وهي تروي قصتها؛ تلفظت بكلمة “إسرائيل” فقاطعها عبدالله حسين قائلاً “ليس عندي أي شيء اسمه اسرائيل.. إنها فلسطين المحتلة”!.

اليوم، عندما يكون هذا القاضي العسكري المزايدُ في حلبة الكلام، هو نفسه الذي يتيح للفاخوري الوصول إلى سطح السفارة الأميركية؛ يرتسم الفارق بين الخطاب العاطفي – إن لم نقل “الجعجعة” – ووقائع السياسة وغوايتها، وبخاصة عندما يكون منحاها، الضغط الأميركي على النظام اللبناني وعليه شخصياً. فقد حدث أنه حصل ذات يوم على تأشيرة قانونية لزيارة الولايات المتحدة، وقبل أن يسافر، تلقّى مكالمة هاتفية من أحد موظفي الدولة في واشنطن، يبلغه أنه غير مرحّبٍ به في الولايات المتحدة. وهنا يكون الافتراض قائماً، بأن أحد المسؤولين اللبنانيين، عرض عليه تسوية قضية منع سفره إلى الولايات المتحدة، ضمن الصفقة، فارتضى أن يشارك من غير موقع الاختصاص في التقاضي، وأن يُطلق المشتبه به، حتى لو أدى ذلك إلى إغضاب جماعته!

هنا، ربما نخطئ أيضاً في القول إنه أغضب جماعته. فالكثير من اللبنانيين، في محيط السفارة الأميركية، التقطوا بكاميرات هواتفهم، مشهد المروحية وهي تتبختر في سماء بيروت.

ولو كان خطاب المقاومة، في تلك اللحظات، موصولاً بالفعل المقاوم، لكانت المروحية عجزت – على الأقل – عن الهبوط على سطح السفارة الأميركية وهربت، ولكانت السيناتورة جيان شاهين، التي تفرّغت لقضية الفاخوري، لم تجد لها طريقاً. فهي واحدة من أشدّ الموالين لجورج بوش الابن منذ وقت غزو العراق، وهي من أكثر أعضاء الكونغرس تطرفاً ضد العرب.

ومن الأرجح، أن هناك في بطن المفاجأة، حيثية أخرى، وهي أن الرئيس اللبناني، الجنرال ميشال عون، حليف “حزب الله” كان على علم بالسيناريو كله، ووافق عليه، بالرغم من إنكاره، وربما أبلغ سنده وحليفه “حزب الله” بما اضطر إلى التساهل فيه. فالمسؤولون اللبنانيون ينكرون، وحتى القاضي الذي أطلق سراح الفاخوري لا يعترف أن الإجلاء الذي توقعه جميع اللبنانيين، لم يطرأ على ذهنه.

ساسة “الثنائي الشيعي” ومعهم رئيس الجمهورية، أرادوا جعل الواقعة المثيرة لوحة سريالية أو كرنفالاً. والثنائي لا يريد أن يعترف، أن مفردات الخطابة العاطفية شيء، ووقائع القوة شيء آخر. فلبنان، بلد متعثر موضوعياً وعلى شفا سقوط اقتصادي مثلما أشار إلى ذلك رئيس الحكومة نفسه. فلو أنهم تحلّوا بالشجاعة واعترفوا بعدم قدرتهم على رد طلب واشنطن وضغوطها؛ لكان ذلك أكرم لهم، لأن ضعف الأوطان واقتصادها وقدرتها على مواجهة الرياح العاتية، لا يصنعه شخص أو مجموعة أشخاص في مواقع سلطة راهنا. فهذه ظواهر تنشأ بالتراكم، ولن يُلام مسؤول يقول إنني سأؤدي واجبي، لكنني الآن، وفي هذه المسألة أو تلك، لا أستطيع!

عموماً، يمكن لكل الأطراف اللبنانية أن تستفيد من الدرس. فإن كان عامر الفاخوري مجرماً، فليكن واحداً من المجرمين الكُثر، الذين أفلتوا من العقاب. والرجل، الآن، يمرّ بدرجة متقدمة من المرض الخبيث. لكن العبرة طازجة ويمكن الاستفادة منها، لكي يتواضع كل ذي خطاب يتجاوز بكثير حقائق القوة، وفي وصف عنفوانه، عندما يتعلق الأمر بمسائل الداخل الوطني والهيمنة، لكنه يتحسس هذه الحقائق، عندما يتّصل الأمر بالتحديات الخارجية.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com