تداعيات الثرثرة الأردوغانية ومقاصد صاحبها
تداعيات الثرثرة الأردوغانية ومقاصد صاحبهاتداعيات الثرثرة الأردوغانية ومقاصد صاحبها

تداعيات الثرثرة الأردوغانية ومقاصد صاحبها

عدلي صادق

في السنة الأخيرة، بدا الإفراط في الثرثرة الأردوغانية، جلابا للإشكاليات على صاحبها. وزاد هذه الإشكاليات تداعيا، عنصران لا يلائمان الأوضاع الإقليمية والدولية، ولا يلائمان تركيا نفسها: مغامرات الرئيس رجب طيب أردوغان الخارجية وصنع المزيد من الخصوم، والبطش في الداخل التركي وتفشي الظاهرة الأمنية القمعية!

على صعيد الثرثرة، ولأن الرجل لا يفكر قبل أن ينطق، وجد الإسرائيليون أنفسهم مضطرين للتذمر علنا من تفوهات حليفهم الموضوعي إستراتيجيا. فقد تنبهوا إلى أن صاحبهم يكرر في أحاديثه، تشبيه كل ما يراه جريمة، بـ”المحرقة” التي تعرض لها مئات الألوف من اليهود في قلب أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. أغلب الظن، ولأنه لم يفكر في أبعاد ما يقول، أن الرجل يعتقد أن التذكير بالفعل النازي، حتى مع التأكيد على حقيقته الإجرامية؛ سيلقى استحسان إسرائيل. لم يخطر في ذهنه أن إسرائيل تغضب من تصريحاته، وتفترض فيه الخبث ونزعة الإنكار، إذ كيف تكون “المحرقة” معادلا موضوعيا لمنع السلطات الهولندية تظاهرة في هولندا، للمطالبة بالسماح للأتراك فيها، بالمشاركة من داخل هولندا في استفتاء يجري في بلادهم على تحويل النظام التركي إلى النمط الرئاسي، الذي يؤمن لأردوغان الهيمنة على البلاد.

فمن منظورها، رأت إسرائيل أن هذا المنطق، يجعل “المحرقة” في فظاعتها، أقل من فعل هراوة تقمع تظاهرة، وهذه عند إسرائيل من الكبائر. لكن تل أبيب صمتت مراعاة للمشتركات الكثيرة بينها وبين النظام الأردوغاني. غير أن الموقف اختلف في الأسبوع الأخير، عندما شبّه أردوغان التمنع اليوناني عن فتح المسارب للاجئين الذين يدفع بهم إلى أوروبا عبر الحدود اليونانية؛ بالعمل النازي، وقال حرفيا بعد أن أطلقت شرطة الحدود اليونانية الغاز المسيل للدموع على اللاجئين “لا يوجدُ فرق بين ما فعله النازيون وتلك الصور من الحدود اليونانية”.

لقد بات أي عمل يزعجه من أي طرف، قابلا للتشبيه بالنازية. عندئذ لم تعد تل أبيب قادرة على الصبر عليه، لاسيما وأن إحصاءات ضحايا “المحرقة” عندها، تقول إن اليونان نفسها شهدت إبان الحرب العالمية الثانية إبادة 87 في المئة من مواطنيها اليهود، عندما لقي خمسون ألفا حتفهم. ورأت إسرائيل، من منظورها أيضا أن الحطَّ من شأن تلك الكارثة، في الألاعيب اللفظية الأردوغانية، أمر معيب ومستهجن. لذا فتح الإعلام الإسرائيلي ملف اللاجئين، ردا على ما وصفته الأوساط السياسية الإسرائيلية بـ”إهانة المحرقة” ولم يشفع لأردوغان عند تل أبيب، أن الرجل لا يقصد، وأن الأمر كله بسبب أن اللسان يسبق العقل في ثرثراته ومحاججاته، والدلائل على ذلك كثيرة، لعل أبسطها وأكثر سخافة جعل النائب الفلسطيني محمد دحلان خصما استراتيجيا لتركيا.

عندما فتحوا الملف، قال الإسرائيليون إن الرجل يتخذُ من ابتزاز أوروبا، أسلوب ضغط على القارة مستغلا أريحيتها. وهو يعيب على اليونانيين سدّ المنافذ أمام التدفق المفتعل للاجئين إلى حدودها. وزادت وسائل الإعلام الإسرائيلية فدخلت في وضعية اللاجئين، أنفسهم، أثناء احتشادهم على الحدود اليونانية. فإسرائيل ترصد التفاصيل. قالت إن منظمات مافيوية تركية تهدد اللاجئين السوريين وتُسيء معاملتهم لكي يزدادوا حماسة للتدفق، وأن منظمات أخرى تمتلك مسارب عبر البحر ومن خلال الأنهار، تبيع فرص الانتقال إلى الجانب الأوروبي، وأن خيوط البيع التي بدأت منذ نحو عشر سنوات، موصولة بالأمن التركي.

لقد أرسلت أنقرة اللاجئين إلى الحدود، بعد سنوات من إقامتهم في تركيا، ولا يختلف اثنان على أن الأمر جاء في إطار عملية ابتزاز. وفي الحقيقة، لم يتردد الإسرائيليون في لوم الأوروبيين على مسايرة أردوغان، بدافع انتهازي، مقابل موافقته المدفوعة الأجر، على جعل مشكلة اللاجئين داخل الحدود التركية، ما يتجاوز أو يطيح تماما بالحق الثابت للاجئ الإنسان المهدد بالموت، وفق القوانين والمواثيق الدولية، في اللجوء إلى بلد آمن. واتهم الإسرائيليون ألمانيا بأنها اتخذت خطوات أدت إلى تفاقم المشكلة: فبدلا من احتواء نظام أردوغان، اختارت برلين توفير المال والشرعية وبيع الأسلحة لأنقرة. وبدلا من دعم اليونان التي تعاني من الأزمات للتعامل مع تحدي المهاجرين؛ طبّقت سياسات حولت اليونان إلى منطقة عازلة لمنع اللاجئين من الوصول إلى شمال أوروبا!

في غضون ذلك، رصد الإسرائيليون كل التكتيكات التركية للضغط على اليونان، وعلى أوروبا بشكل عام، فقالوا إن العديد من الجماعات التركية القومية، المؤيدة لحكومة أردوغان، تتلقى عبر شبكة الإنترنت تعليمات من الدعاية الحكومية لاستخدام علامة “النازية” ضد الآخرين، ما يزيد نزعة التطرف العسكري في هذه الأوساط.

بخلاف ما يقوله الإسرائيليون، بدا واضحا أن أردوغان يحاول تعويض كل خيبة تُمنى بها مغامرته في سوريا، وتضطره إلى الرضوخ للروس؛ بالضغط على أوروبا وتهديدها بفتح المنافذ لتدفق المهاجرين، وهو يقصد بذلك، فضلا عن استدرار المال، صرف الأنظار عن مأزقه في إدلب ومحيطها. ولم يُستثنَ من هذا التهديد الشق اليوناني من جزيرة قبرص!

منذ العام 2015 عندما فرّ أكثر من مليون لاجئ عبر تركيا إلى أوروبا، دفع الاتحاد الأوروبي ما يزيد عن ثلاثة مليارات يورو، لإبعاد المزيد من اللاجئين، فوفرت تركيا مخيمات لمن تبقى عندها، وجعلتهم مخزونا بشريا لابتزاز الأوروبيين وطلب المزيد من المال: إما أن تدفعوا له، أو أفتح الحدود، وكأن الأمر يصلح أخلاقيا لأن يكون مصدر رزق.

واللافت أن أنقرة تمنع اللاجئ السوري من طلب الإقامة الدائمة، وتمنح الجنسية لحفنة من الكادرات السورية التي تحتاجها ورجال الأعمال الذين لديهم رساميلهم، لاسيما من أهالي مدينة حلب. وما دون هؤلاء فإن سلطات أردوغان تسمح لهم بالتواجد دون الحق النظامي في الإقامة. وتقول منظمة “هيومان رايتس ووتش” إنها توقفت أيضا عن تسجيل اللاجئين في العام 2018. وهذا إجراء من شأنه تسهيل ترحيلهم عنوة، وقد انتقد الأوروبيون التوقف عن التسجيل باعتباره انتهاكا للقانون الإنساني.

ولا يقتصر الأمر على استغلال محنة السوريين وجعلهم مادة لمناورات ومغامرات أردوغان. فلا تزال تتفاقم مشكلة انتهاك الحريات في تركيا، وسُجلت محاولات فرار مواطنين أتراك إلى اليونان، وفشلت المحاولات بسبب حال الطوارئ على الحدود اليونانية ووجود العصابات المافيوية التي سلمت المحاولين وآخرهم امرأة، للأمن التركي. فالرجل في ثرثراته، يتحدث عن الحريات وعن الحكم الراشد، وعن الأخلاق، بينما في الواقع، وفي موضوع اللاجئين وحده، أصبح كبير المتاجرين بالبشر، فضلا عن كونه متاجرا بالقوات العسكرية، والإرهابيين الذين أرسلهم من إدلب إلى ليبيا، إما أن يُقتلوا هناك أو ينتقلوا إلى أوروبا، والتكفيريين الآخرين الذين يريد إرسالهم إلى القارة، في إطار تأسيس منظومة ابتزاز في بطنها.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com