سطل ماء بارد
سطل ماء باردسطل ماء بارد

سطل ماء بارد

عدلي صادق

في حلقة مبكرة من برنامج “الاتجاه المعاكس” الذي تبثه قناة “الجزيرة” القطرية، دُعيت لكي أكون أحد اثنين، واحد ينطح “جامعة الدول العربية” وآخر يتلقى عنها الضربات ويقوم بهجوم معاكس. فطبيعة البرنامج، تتطلب الحدة في النقاش بألفاظ مدببة، ولا بأس إن تشاجر الضيفان وقلب أحدهما الطاولة في وجه الآخر، بينما فيصل القاسم يتمثل دور المصدوم الذي أراد خيراً فبوغت بالشر. لكنني من خلال مشاركتي ثلاث مرات في هذا البرنامج؛ أدركت أن الشر هو المقصود حصراً، وأن ما يخشاه القائمون على البرنامج هو أن يتأدب الضيفان ويجريا -باحترام- نقاشاً هادئاً منزوعَ الصراخ. لذا تُتخذ بعض التدابير لضمان توافر عنصر التوتر. ففي الفندق الكبير، يُراعى إسكان الضيف بعيداً عن منافسه، ويتحرك في البهو مقدمو النشرة الجوية بلباسهم العربي، لمراقبة الضيفين وإحباط التلاقي قبل الحلقة، خشية أن يتحادثا ويتفقا على التحاور بهدوء. وفي الأثناء، يُجري فيصل القاسم اتصالين لتحريض كل طرف ضد الآخر. يومها، قال لي بعض عبارات الذم في الجامعة، وتأثيم من يسكتون عنها وعن هزالها، ما يستوجب “تنتيفها” على الهواء. أما الضيف الثاني، وكان غيث أرمينازي سفير جامعة الدول العربية في بريطانيا، فقد قال له: ما الذي يريده المزاودون من جامعة الدول العربية؟ لماذا لا يلومون أنظمتهم العاجزة؟ فالجامعة مجرد سكرتاريا أمينة ومحترمة للتعبير عن إرادات الدول، فما هو ذنبها في كساحهم!

عند الانتقال إلى القناة، تكون في انتظار الضيفين سيارتا مرسيدس واحدة سوداء والأخرى بيضاء، لتنشيط الإحساس بالتناقض. أما في مكتب المدير التنفيذي، فإن الضيفين يلتقيان للمرة الأولى وجهاً لوجه ولخمس دقائق، يتخللها ترحيب مقتضب ولا كلام سواه. كرسيان ثابتان متقابلان أمام طاولة المدير، وكرسي ثالث أصغر، ومتحرك، يجلس عليه فيصل صامتاً إلا من كُحة أو ملاحظة قصيرة عن المناخ، وتكون الدقائق الخمس أكثر من كافية، لتخليق إحساس بخطورة اللحظة، وكأن الضيفين قادمان لتوهما من شجار حدث بينهما وقد استعصى على وجهاء العشيرة مشروع الصلح. وعندما يُدعى الضيفان إلى غرفة المكياج، يكون كلاهما عازفاً عن مثل هذا الترف، في وقت انحباس الأنفاس والإحساس بالحشر.

بدأت الحلقة، وكان أرمينازي، وهو نجل نجيب أرمينازي أحد مؤسسي الجامعة وأول سفير لها في بريطانيا، مهذباً كمن يدلق سطل ماء بارد على رأس فيصل. عدت وإياه في سيارة واحدة وتصارحنا، لكنني وعدت فيصل بأن أعوضه، إن جلب لي أحد عُتاة الزاعقين دفاعاً عن حافظ الأسد، وهكذا كان بعدئذ!

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com