في مديح الفاصلة
في مديح الفاصلةفي مديح الفاصلة

في مديح الفاصلة

سمير عطا الله


كان سعيد فريحة مفتونًا بسحرها وكأنها في اللغة، حتى كان أحيانا يملي «الجعبة» بادئًا بوضع فاصلة قبل أن يقول أي شيء. يقول الأميركي الهندي بيكو لاير، إن الترقيم يضبط عمل القانون في النصوص. وإن العلامات تشبه في التواصل تلك العلامات الموضوعة على الطرق، والتي تحدد لنا الاتجاهات والسرعة والمفارق. فالنقطة أشبه بالضوء الأحمر، والفاصلة ضوء أصفر يطلب منّا التمهل، والفاصلة المنقوطة إشارة توقف تطلب التمهل التدريجي نحو التوقف الكلي، ومن ثم الانطلاق من جديد. عندما نستخدم الترقيم لتنظيم العلاقة بين الكلمات، ننظم تلقائيًا العلاقة بين قارئيها. والفاصلة، خصوصًا، أو الفارزة، كما يسميها البعض، تفصل ما لا ينفصل، وبسحرها تجمع ما يصعب جمعه. إذن، نحن هنا أمام انضباط يشبه الانضباط الأخلاقي. إنها تعاليم، لا أوامر ولا تعليمات. تجاهُلها ليس خطيئة، لكن العمل بها إضافة بالغة الحسن. في العصر الفيكتوري المحافظ التزم بها أهله التزاما شبه مُطلق. لكن المحدثين في بوابة القرن العشرين، تمردوا على تلك القواعد وكأنهم يتحدّون وجودها.


كان أبرز هؤلاء الآيرلندي جيمس جويس، الذي أحدث ثورة في الرواية أيضا عندما جعل بطلته، موللي بلوم، تشكو على مدى 36 صفحة، من دون فاصلة واحدة. يشعر المرء أن الفواصل وعلامات التعجب وعلامات الاستفهام والأهلّة جزء من حرمة نص الكاتب، واحترام لاطلاع القارئ وحسه الأدبي والمعرفي. هذا طبعًا إذا كانت العلامة في مكانها، تمامًا كما هي الكلمة في مكانها. أما إذا كانت الاثنتان مجرد مكدساتٍ عصبية، فكل شيء سواء. الإكثار في النصوص المفتعلة، كالإكثار في الأطفال الذين يولدون لكي يُرموا في الشوارع والأزقّة والمجاعة والفقر والثياب البالية والحياة المعذبة وتحميل الأوطان ما لا يمكن أن تتحمله. اللغة هي الإنسان. واللغة العربية فاتها علامات كثيرة موجودة في اللغة اللاتينية، كالحرف الكبير للدلالة على أسماء العلم، أو على البدايات والفقرات، لكنها عوَّضت عن ذلك كله بثراء مذهل في التنوع والمفردات. في حين أن اللغة الصينية، مثلاً، خالية من العلامات، لكنها أيضا بعيدة عن غنى العربية. لا شك أن عمل أحمد حسين باشا شكَّل إضافة راقية في استخدام اللغة. والإضافة القابلة للحياة سرعان ما تتحول إلى جزء من عمل الجسم وحياته.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com