بغداد يا أرض المسرّات والأوجاع
بغداد يا أرض المسرّات والأوجاعبغداد يا أرض المسرّات والأوجاع

بغداد يا أرض المسرّات والأوجاع

علي عبيد الهاملي

ترتبط بغداد في ذاكرتي الحسية، كلما استعدت المرات التي زرتها فيها، برائحة «المسكوف» في الحفلات التي كان يقيمها لنا مضيفونا العراقيون الأكارم على ضفاف نهر دجلة في أمسيات لا تنمحي من الذاكرة.

كانت الحرب وقتها مشتعلة على الحدود العراقية الإيرانية، وكان العراقيون يمارسون طقوس حياتهم اليومية، غير مكترثين بما كان يجري هناك على الجبهات، كأنهم خلقوا للفرح والحزن معاً، وكأن العراق خلق للمسرّات والأوجاع.

أما في الذاكرة الوجدانية فتتمدد بغداد في قلوب العرب والمسلمين لتحتل منها مساحات شاسعة، منذ أن اتخذ الخليفة المنصور من بغداد في القرن الثامن الميلادي عاصمة للخلافة العباسية، إلى أن جعل منها هارون الرشيد مركزاً للإشعاع العلمي والفني والأدبي والحضاري، وتوج ذلك ببيت الحكمة الذي عاش عصره الذهبي في عهد المأمون.

حتى في أشد أيام تاريخها ظلمة، عندما استباح المغول بغداد، فلم يرحم جنود هولاكو فيها شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، منهين بذلك خمسة قرون من الخلافة العباسية التي بلغت فيها بغداد أوج مجدها، حتى في هذه الحقبة التاريخية المظلمة، ظلت بغداد شامخة، وكان أفول شمس العباسيين نهاية لعصر عربي إسلامي مزدهر من تاريخ العراق، حيث ذكرت بعض المصادر أن عدد القتلى من الجند والمدنيين بلغ وقتها مليوني شخص، وأن مياه دجلة اصطبغت باللون الأسود لكثرة ما رُمِي فيها من كتب مكتباتها التي أُحرِقت.

أفِلت شمس الخلافة العباسية، لكن شمس بغداد لم تغب.. كبرت بغداد على الجرح ولم تنكسر.

ترتبط بغداد في ذاكرتي الحسية والوجدانية بكل هذا وأكثر، وترتبط شوارعها بذاكرة ملايين العرب، من عاش منهم في بغداد ومن لم يعش فيها.

عرفنا تفاصيلها كما نعرف تفاصيل مدننا.. حفظنا أسماء شوارعها كما نحفظ أسماء شوارعنا.. تنقلنا بين الرشيد والمتنبي وأبو نواس.. وشربنا الشاي العراقي «السنكين» في مقاهيها.. أسرتنا عيون المها بين الرصافة والجسر مثلما أسرت قلب شاعرنا البدوي علي بن الجهم عندما جلبن له الهوى من حيث يدري ولا يدري.

من ينظر إلى تاريخ بغداد القديم والحديث يجده سلسلة من «المسرّات والأوجاع» التي اختارها ابن بغداد «فؤاد التكرلي» عنواناً لروايته الشهيرة تلك، وإن كانت تختلف عن مسرّات وأوجاع بطل الرواية «توفيق».

ومن يستقصي أوجاع بغداد يجدها تبدأ من حيث تمكنت من حكامها نزواتهم السلطوية، ولا تنتهي بالدمار الذي يحل ببغداد بعد كل نزوة أو فعل طائش يرتكبه أحد هؤلاء الحكام فيقودها إلى هاوية يصعب الخروج منها.

لقد عانت بغداد من أطماع الصفويين والعثمانيين والمماليك أكثر من أربعة قرون، حتى سقطت في يد البريطانيين في القرن العشرين، وخضعت للانتداب البريطاني الذي ورث الحكم العثماني.

وبعد أن حصل العراق على استقلاله بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية قادت العراق وشعبه إلى ما نراه اليوم من دمار وتشرذم، وحولت هذا البلد الغنيّ الجميل إلى خرائب وطوائف متناحرة.

لقد سيطر الصفويون على بغداد في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ثم انتزعها منهم العثمانيون، وعادوا إلى احتلالها في نهاية الربع الأول من القرن السابع عشر، قبل أن يعود العثمانيون فينتزعونها منهم مرة أخرى.

ومنذ ذلك التاريخ ظلت بغداد هدفاً يداعب أحلام الصفويين القدامى والجدد دون أن يتمكنوا من تحقيقه. ورغم حرب الخليج الأولى التي استمرت ثماني سنوات، إلا أن إيران فشلت في تحقيق حلمها بالاستيلاء على بغداد، وخرج البلدان من الحرب منهكين.

لكن الوضع تغير بعد حرب الخليج الثالثة وسقوط بغداد على يد القوات الأمريكية، حيث وجدت إيران الطريق أمامها ممهداً للسيطرة على هذا البلد العربي الأصيل، واستطاعت التحكم في قرار بغداد عبر أعوانها ووكلائها وممثليها، وأغرقت العراق كله في الفساد والفوضى، فتحقق لها دون حرب ما عجزت عن تحقيقه خلال حرب السنوات الثماني، بعد أن قدم الاحتلال الأمريكي العراق لها على طبق من ذهب.

لقد غرق العراق في الفساد والفوضى ستة عشر عاماً، استبيحت خلالها أراضيه، ونُهِبت ثرواته، وتم زرع الفرقة بين فئات شعبه وطوائفه وأعراقه ودياناته.

واليوم عندما ينتفض الشعب العراقي ضد هذا الواقع المر، ويطالب بطرد محتليه وعملائهم من أرضه، ويقدم أرواح أبنائه ودماءهم، فهو إنما يفعل ذلك من أجل استعادة كرامته التي عمل على سلبها منه مجموعة من العملاء محسوبين عليه، يتاجرون بكرامة الشعب العراقي الأصيل وتاريخه المجيد وثرواته الهائلة، ويتركون للشعب الفتات.

لا تستهينوا بالشعوب عندما تنتفض، ولا تظنوا أن قمعها أو محاولة رشوتها سيسكت صوتها للأبد، فهي ربما ترجع إلى الوراء خطوة أو تتوقف لالتقاط أنفاسها، لكنها تعود لتتقدم إلى الأمام خطوات. وما يحدث في العراق هذه الأيام متسق مع حركة التاريخ وطبيعة الشعوب الحرة.

أما ما تحاول قنوات التدليس أن تمرره لنا فربما ينطلي على المخدوعين، لكنه لا يغير من حقيقة أن معدن الشعب العراقي الأصيل بدأ يكشف عن نفسه، وأن الزيف الذي حاول العملاء أن يغلفوه به قد انكشف، وأن مصير هذا الزيف إلى زوال، تماماً كما يحدث عندما ينزل المطر فيزيل الغبار المتراكم على أوراق الشجر، وتعود هذه الأشجار لتزهر من جديد.

لك الله يا بغداد وأنت تنتفضين ضد من يحاول تشويه تاريخك المجيد.. لك الله وأنت تتقلبين بين المسرّات والأوجاع، وتكبرين على جرحك الجديد.

البيان

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com