واشنطن... زمن السلام عبر القوة
واشنطن... زمن السلام عبر القوةواشنطن... زمن السلام عبر القوة

واشنطن... زمن السلام عبر القوة

إميل أمين

مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب اختياره روبرت أوبراين مستشاراً للأمن القومي، وهو الآتي من عصب التيار المحافظ الواقعي، تبدو الولايات المتحدة ماضية في طريق التوجه الاستراتيجي الأوغسطيني: «إن أردت السلم، فاستعدّ للحرب».

والشاهد أن انتقاء أوبراين لم يكن عشوائياً، لا سيما في ظل الحقيقة شبه المؤكدة بأن دور واشنطن كشرطي العالم، قد أصابه عطب جسيم، وبات فرط الامتداد الإمبراطوري الأميركي مكلفاً جداً للميزانية الأميركية، الأمر الذي يقتضي تقليص رقعة انتشارها عسكريّاً عبر المسكونة برمتها.

لا يعني ذلك في تقدير أوبراين أن تستسلم واشنطن لقدر سيزيفي عرفته إمبراطوريات أخرى سابقة لها، وهو صاحب الباع الطويل في أروقة الحزب الجمهوري، والخبرة المعتبرة في الشؤون الدولية، والذين قُدّر لهم الاطلاع على كتابه المعنون «عندما كانت أميركا نائمة»، يوقنون بأن الرجل يرفض الضعف والاستكانة، وقد كان شديد الانتقاد للسياسة الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما بصفة عامة، وبنوع خاص صب جام غضبه ذات مرة على الاتفاق النووي السيئ السمعة مع الإيرانيين في 2015.

ما ملامح رؤية أوبراين لأميركا القوية المعاصرة؟ المؤكد أنه يسعى إلى إعادة الاعتبار للترسانة العسكرية الأميركية، وبحسب نصوص سطّرها أكثر من مرة، فإنه أمام التحديات العالمية الجديدة، حان الوقت للعودة إلى ما سماه «سياسة أمن قومي مبنية على السلام عبر القوة»... هل يقصد أوبراين دولاً بعينها بهذا التعبير؟

حكماً أن مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد يدرك إدراكاً متقدماً أن روسيا القطب القائم من الرماد كالعنقاء، والصين القطب المقبل بقوة تتبدى يوماً تلو الآخر، برّاً وبحراً وجوّاً، ستضحيان خلال العقد المقبل مهددين حقيقيين لطرح أميركا المحافظ في نهاية التسعينات، أي القرن الأميركي، الذي فيه تكون السيادة والريادة لواشنطن من دون تشارع أو تنازع.

لم تنطلق رؤى أوبراين من فراغ، بل هي حسابات واستشرافات استراتيجية وقرت لديه من خلال المفاوضات التي أجراها من قبل في بكين تحديداً مع مسؤولين رسميين كبار، أولئك الذين أعربوا عن ثقتهم العالية بأن أميركا والغرب في الطريق إلى الانحدار، كما أن القرن الحادي والعشرين سيكون آسيوياً، وملكهم باقتدار.

لا تحارب أميركا الحقائق بل تتعامل معها، وهي تدرك اليوم أن أوبراين على حق، فقد شهدت الأيام القليلة الماضية تصريحات سياسية واستعراضات عسكرية صينية مخيفة، تجعل صانع القرار في البيت الأبيض يسارع في تبنيه مشروعات عسكرة العالم من أجل الحفاظ على سلام أميركا أولاً وآخراً، وقبل أي سلام للأمم أو العالم، وحتى بعيداً جدّاً عن فكرة «الباكس أميركانا»، المكافئ الموضوعي لطرح «السلام الروماني» التقليدي.

خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة مرور سبعين سنة على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، كان الرئيس الصيني شي جينبينغ، يؤكد أنه ليس هناك قوة بإمكانها زعزعة أسس هذا البلد العظيم، وليس هناك قوة قادرة على منع الأمة الصينية من التقدم، وأن الجيش والقوات الأمنية الصينية سيدافعان بحزم عن سيادة البلاد وأمنها ومصالح تطورها.

لا يقتضي الأمر حصافة بعينها كي يدرك القارئ أن المقصود بهذه التصريحات، ولا شك، الولايات المتحدة، تلك التي شن رئيسها حرباً تجارية شعواء منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، وربما من قبل أن يدلف إلى مكتبه البيضاوي، ناهيك بحزازات الصدور العسكرية، كما يتجلى في الصراع المكتوم حول بحر الصين الجنوبي، وإشكالية تايوان.

والثابت أن الذين قُدّر لهم متابعة العرض العسكري الصيني الأخير باتوا على قناعة مطلقة بأن التنين الصيني في حاجة إلى أفكار من خارج الصندوق الأرضي لمواجهته، خصوصاً بعد أن عرض أسلحة متقدمة ترعب أميركا وساكنيها، من عينة الصاروخ «دونغ فينغ - 41» القادر على حمل 12 رأساً نووياً يقطع المسافة إلى واشنطن في غضون ثلاثين دقيقة من إطلاقه، عطفاً على صواريخ أخرى فرط صوتية مجنحة تُستخدم لتدمير الأهداف القوية التحصين والمخابئ تحت الأرضية، وكثير من الأسلحة الفتاكة المحدثة.

لم يعد البر والبحر إذن ميدانين للتنافس العسكري الأميركي، ولهذا يبدو جلياً أن أوبراين يقف بقوة وزخم شديدين وراء برنامج «قوات الفضاء»، الذي هو في أصله وجذوره برنامج حرب النجوم أو الكواكب الذي انطلق عام 1983، في عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان.

باختصار غير مخلّ، تبدو الولايات المتحدة اليوم وبصفتها مالكة أكبر مجموعة فضائية عسكرية وأكثرها فاعلية، تحاول تعزيز هيمنتها في الفضاء، فـ«البنتاغون» لا يخاف على أقماره بمقدار ما يريد امتلاك القدرة على تدمير أقمار العدو.

أضحت فكرة الهيمنة على الفضاء مسيطرة على العقول الاستراتيجية الأميركية، لا سيما أن الهيمنة العسكرية الأميركية على سطح الأرض راحت تتقلَّص، وعليه، فإن أسلحة من شبكات الليزر الأميركية لم ترها عين ولم تخطر على قلب باتت تجري بها المقادير في الفضاء... إنه زمن السلام الأميركي المشروط بالقوة الفضائية.

الشرق الأوسط

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com