خطاب عباس: وعود تتلو وعودًا
خطاب عباس: وعود تتلو وعودًاخطاب عباس: وعود تتلو وعودًا

خطاب عباس: وعود تتلو وعودًا

عدلي صادق

في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مرة أخرى، عن “عزمه” إجراء انتخابات “عامة” في الضفة وقطاع غزة. وفي هذه المرة أيضاً، أضفى على صيغة الإعلان عن العزم المفترض، وصفاً زمنياً فقال إنه سيحدد فور عودته موعداً لإجراء هذه الانتخابات.

وفي الحقيقة لم تخْلُ صيغة الإعلان السابق في ديسمبر 2018 -عندما بادر إلى حل المجلس التشريعي المعطل- من الوصف الزمني، إذ حدد مدة ستة أشهر من تاريخ ذلك الإعلان. وفي الأشهر الستة التي أعطاها لنفسه، كمهلة للتحضير للانتخابات، لم يفعل الرجل سوى الإسهام مع حماس في مراكمة المزيد من الأسباب المحبطة لأي عملية انتخابية أو لأي مقاربة لإنهاء الانقسام. فما جرى هو سياق لتكريس الانفصال بين الضفة وغزة. وقد بدا واضحاً أيضاً، خلال الأشهر الستة المنتهية في يونيو 2019 أن ما يلائم طرفي الانقسام الفلسطيني، هو الانسداد والخصومة وليس المصالحة، إذ ثابرا على جعل الانتخابات غير ممكنة بحكم إصرارهما على التفرد، كلٌ منهما في منطقة سيطرته على السياسة الداخلية، دون أي بادرة تنم عن الرغبة في استعادة المؤسسات الدستورية التي يمكن أن تُجرى في ظلها انتخابات عامة.

لقد خلا إعلان عباس عن عزمه المفترض، على تحديد موعد الانتخابات فور عودته إلى رام الله، من تشخيص واقع الحال السياسية الفلسطينية، وتحديد سبُل فتح ثغرة في الانسداد بهذا الاتساع. لذا فإن هذا “العزم” الاستعراضي الذي ستدحضه وقائع الحال المزرية التي تتفاقم على الجانبين، لن تلقى اهتماماً من الفلسطينيين. فالجانب السلطوي الذي يمثله عباس، ونقيضه الحمساوي في غزة، لديهما من القدرة على اختلاق الذرائع، ما يكفي لخمسين سنة. إن الأمور تتفاقم، ويتبدّى هذا التفاقم، على الجانب الأول في رام الله، من خلال استمرار عباس في تهميش فريق الموالين له أنفسهم، وإضعاف الموالين له من حركة فتح، كتنظيم وكشخصيات، وتجاهل ما لديه من أطر.

فمن خلال نظرة على تشكيل وفده إلى الأمم المتحدة، يلاحظ الناظرون أنه اصطحب عائلته ومرافقيه، على حساب المال العام، وعلى حساب التمثيل الفصائلي لمنظمة التحرير وتمثيل حركة فتح التي لم يرافقه أحد من المراتب العليا المتفرغة لتنظيمها. والإطاران المذكوران، حتى بعد إعادة صياغة كل منهما على النحو الذي يُرضيه ويطيعه ولا يزعجه بنصيحة أو نقد؛ لم يعد لهما شغل، وتخلو أوقاتهما من أي عمل ذي طبيعة سياسية أو تنظيمية. أما حماس فإنها تراوح في مربع تثبيت الهدنة وإحكام قبضتها على غزة، ولهاتين المهمتين طابع أمني بحت، يخلو من السياسة في بعديها الوطني والاجتماعي.

إن كان من بديهيات الأمور، أن الانتخابات نفسها، هي في الأصل وفي النتائج استحقاق دستوري، فلا يستوي أن يُصار الإعلان عن مواعيدها دون استئناف الحياة الدستورية نفسها. فحتّى الانقلابات العسكرية والدكتاتوريات التي تدعو إلى انتخابات صورية؛ تحتاج أولاً إلى وحدة أراضيها وإلى السيطرة على هذه الأراضي وتعزيز دور أطرها. وكان الفلسطينيون في ظلال اتفاقات أوسلو وتطبيقاتها، قد استحدثوا عملية انتخابية بغير سيطرة على الأراضي المحتلة، بينما حالهم لا يسمح بأكثر من دمقرطة فصائلهم وأحزابهم، لكي يفوّض الشعب من يديرون الحكم الذاتي المحدود جداً، في الأراضي المحتلة. وقد حدثت مثل هذه الانتخابات وأحس الفلسطينيون من خلالها وكأنهم حققوا استقلالهم، ومرت الأمور على هذا النحو.

أما اليوم، وهم في خصومة نتج عنها انشطار السلطة إلى سلطتين، فلم يعد ممكناً الدعوة إلى انتخابات عامة تليق بالبلدان المستقلة، دون استعادة وحدة الشّطرين والمنطقتين. وهذا هو الأجدر بأن يعلن عباس عن عزمه الدعوة الفورية إلى إنجازه. لكن حقيقة الأمر أن الرجل في مقاصده، لا يبتغي أكثر من ذر الرماد في العيون، بحكم أن مؤشرات الواقع، تتجه إلى مفاقمة مشكلة الحكم الفلسطيني وليس إلى تصفيرها.

في هذه الأثناء، أعلنت الفصائل الفلسطينية عن “مبادرة” لإنهاء مشكلة الانقسام تتضمن آليات لتنفيذ اتفاقات مصالحة وقّع عليها طرفا الخصومة. وسرعان ما أعلن ناطق باسم فتح والسلطة عن رفض هذه المبادرة وقال إنها تضرب الجهود المصرية لتحقيق المصالحة. وكأن الجهود المصرية غير مضروبة أو سالكة ولا تواجه العراقيل التي يفتعلها الطرفان ولا تفتعلها الفصائل. المعنى هو أن الأمور ليست ذاهبة إلى انتخابات يتوافق عليها طرفان يستشعران حاجتهما إلى التفويض، وحاجة وطنهما وشعبهما إلى مواجهة التحديات الخطيرة بوحدة الطيف السياسي وباستراتيجية عمل وطني ملزمة لكل منهما.

حماس، من جهتها، تعلم أن الطرف الآخر، لا يقلّ عنها تمسكاً بالانقسام والتفرد في منطقته، وأنه ليس مستعداً لمصالحة تستعيد وحدة المؤسسات وإنفاذ القانون. لذا بادرت سريعاً إلى قبول مبادرة الفصائل، لكي ترمي الكرة في ملعب الطرف الآخر. وفي حال حدثت المعجزة وتجاوبت مع مبادرة الفصائل، فإن لديها من الذرائع ما تستدرك به وتسد الأفق. لقد بات الفلسطينيون يعرفون هذه الألاعيب ويعلمون مسبقاً أن النتيجة صفر، تماما مثلما هي نتيجة العزم الفوري العباسي على إجراء انتخابات عامة، لم يكمل وصفها كما يجب لكي يأتي بجديد. فالانتخابات التي يمكن أن يتقبلها الفلسطينيون، هي التشريعية والرئاسية، التي تتيح للشعب الفلسطيني تفويض من يريدهم للحكم، وإقصاء من لا يريدهم.

إن الممسكين بقبضتي الحكم في المناطق الفلسطينية، لا يلائمهم سوى الانقسام. وكل ما عدا ذلك من مبادرات وأحاديث وتصريحات، ليس إلا في سياق إدارة العملية الضامنة لاستمرار الحال الفلسطينية المزرية. أما الشعب، فهو محض عنوان للتوظيف في عملية تدبيج النصوص، ولا يكترث الحاكمون لأحواله، علماً بأن الأمور وصلت إلى ذرى الكارثة في غزة، من جراء أفاعيل الطرفين.

أغلب الظن، أن عباس عندما يصل إلى رام الله، لن يقول لنا كيف ستُجرى الانتخابات في ظل افتقار سلطته لأي مؤسسة دستورية أو إطار تمثيلي. وكذلك في ظل الوقف البات لتداول “القانون الأساسي” أي الوثيقة الدستورية، وفي ظل فتح منقسمة، وفي ظل إعلانات ووعود كثيرة بتحقيق خطوات، لم يقل لشعبه كيف سيلبّيها، وآخرها قراره وقف العمل بالاتفاقات المبرمة مع إسرائيل.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com