مستشارو عباس قبل الإطاحة المفترضة
مستشارو عباس قبل الإطاحة المفترضةمستشارو عباس قبل الإطاحة المفترضة

مستشارو عباس قبل الإطاحة المفترضة

عدلي صادق

أن يقرر أي رئيس، الاستغناء عن خدمات مستشاريه بالجملة، دون إبقاء واحدٍ منهم، هو أمرٌ لافت، وسيكون مبهما بعض الشيء، إن صدر القرار بلا تعليل. فإن سلّمنا جدلا، أن القرار الذي أصدره رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بإنهاء خدمات جميع مستشاريه دفعة واحدة، قد حدث ويمكن أن يحدث مثله، في أي نظام سياسي، فإنه في المثال الفلسطيني تحديدا، لن يكون بسبب رداءة استشارات المستشارين، وأن عباس اكتشف هذه الحقيقة الشاملة فجأة.

ففي التجربة الفلسطينية، ليست مهمة المستشار تقديم اقتراحات وأفكار. فمهمته تُوصف تندرا بالقول المأثور، إن المستشار لا يُستشار. وفي غير التجربة الفلسطينية، قيل عن قرارات التكليف بوظيفة المستشار، إنها تعادل موضوعيا قرارات إحالة المسؤول التنفيذي إلى الاستيداع، مع حفظ ماء وجهه في الأيام الأولى لاستيداعه، قبل أن يتبين أن حقيقة كل قرار، هي التنحية.

الأمر بالنسبة للنظام الفلسطيني، وللرئيس عباس حصراً، عجيب ومختلف. ونقول حصراً، لأن مستشاري الرجل، إما محض جلساء وإما محض بطانة، مهمتهم التي لا يتقبل عباس سواها، هي الحديث بما يعزز قناعاته بما يفكر ويقرر، خطأ أو صواباً، سواء كان ذلك يتعلق بالسياسة أو بالإدارة أو الأمن، أو بأي أمر خاص، يريد الخوض فيه والإفصاح عنه أمامهم، أو حتى ببغضاء أحس بها، أو بخصومة أراد التمادي فيها. وفي حال أن يكون المستشار العباسي أبرع حيلة، في كسب وداده وأعطياته، تراه يصفو إلى نفسه، لكي يهتدي إلى شرح أو تعليل أمام وسائل الإعلام، لينال إعجاب السيد الرئيس، من خلال التأكيد على صواب ما اتخذه من قرارات وما استقر عليه من مشاعر.

وفي هذه الحال، هو يختلق أسبابا للبرهنة على وجاهة النطق الرئاسي، لم تخطر على بال الرئيس نفسه. ويمكن، وهو الذي لا يقرأ أن يلجأ إلى اختراع واقعة تاريخية، حدثت في البرازيل، لكي يساعد السيد الرئيس على تبديد قلقه. وهذا كله، يناقض مهمة المستشار في نُظم الحكم المتحضرة، التي يعرض فيها الحاكم، فكرته على مستشاريه، فيعاينونها ويحسبون حسبتها ونتائجها، ويحددون فرضيات أصدائها، فيقولون لا، أو يؤكدون على صواب الوجهة مع توصيات وملاحظات، فيقولون نعم، مع التنبيه إلى المحاذير ومراعاة حُسن الإخراج، لتظهير حُسن المقاصد. فهم أولاً وأخيراً، مسؤولون عن تشخيص صحة القرار قبل اتخاذه، ومشاركون في المسؤولية عن حماية النظام السياسي ورأس هرم السلطة، من الانزلاق إلى حماقات. فأي رئيس، هو بشر في النهاية محدود القدرات، وجسامة المسؤولية من شأنها إرهاقه وتشتيت فكره.

لا زلنا حتى الآن نحاول مناقشة أمر التجربة الفلسطينية على مستوى مستشاري الرئاسة، بنوع من الجدية، على الرغم من الحيثيات الكاريكاتورية في هذه التجربة. فمعظم مستشاري عباس، الذين يعرفهم الفلسطينيون، من مصطادي الفرص وطلّاب المزايا ومن طلاب الثروة ومن قليلي المواهب والمناقب. وهذه حقيقة ظل الكثيرون يؤكدون عليها لسنوات، وكان الأمن الفلسطيني، وكانت البطانة وطيف المنافقين، يرونها نوعاً من المجافاة لفلسطين نفسها، وربما للأقصى وللقضية. اليوم يقولها عباس نفسه، وتؤكد عليها كل تفسيرات قراره إنهاء خدمات جميع المستشارين.

فلماذا إقالتهم بالجملة، إن كان منطق الأمور يقول إنها إقالة لا تتعلق بالاستشارات؟

الجواب له مستويان، الأول يتعلق بالسبب المباشر والوحيد على الأرجح، في ذهن الرئيس عباس، وهو إحساس الرجل أن هؤلاء، من المستشارين والوزراء، الذين منحهم من الامتيازات ما لم يُتحْ للكثيرين ممن يقفون معه، قد زاد جشعهم عما يعرفه من قديم، وباتوا يلعبون من وراء ظهره، ولم يبادروا إلى التراجع بعد أن انكشفت بعض وقائع فسادهم، بينما هو في حاجة إلى الاستمرار في إدعاء محاربة الفساد وامتداح سلطته و”شفافيتها”. اعتبر سلوكهم طعنة في الظهر، إذ كيف يجرؤ هؤلاء، فوق كل ما تحصلوا عليه، أن يكذبوا لكي يختلسوا، فيزعمون أنهم يستأجرون مساكنهم، ويطالبون ببدلات إيجار عالية، بينما هم يقيمون في دور مترفة، يمتلكونها ويمتلكون غيرها في أماكن عدة؟

أحسّ الرجل أن هؤلاء متضامنون ومتساندون في مثل هذا العمل المسيء إلى سلطته لدى الرأي العام الفلسطيني، ولدى الدول المانحة، لاسيما بعد أن جرى تسريب وثائق تؤكد على فعلتهم. المستوى الثاني من الجواب، وهو الأهم والأخطر والذي لم يطرأ قطعا على ذهنه، أن عملاً من هذا النوع، يعكس مستوى متدن على أكثر من صعيد: أناس يفارقون زمن شعبهم ويبتعدون كثيراً ولا يشعرون بأن ظروف السلطة المالية، وعلى صعيد المكانة الأدبية والسمعة، لا تسمح بالتمادي في التربح، بينما هم أصلاً محض جلساء لا يثابرون على شيء ذي قيمة.

من ناحية أخرى، إن هذا النوع من الممارسات، يؤكد على فقدان هذه الشريحة، للحد الأدنى من الثقافة والإدراك لأهمية الاستمساك بالحد الأدنى من قيم العمل العام في إطار سلطة يُفترض أنها تمثل حركة وطنية بالمعنى التاريخي. وهناك أمثلة فادحة ومعيبة على استمراء هؤلاء للفساد الإداري، وتمييز أبنائهم المتعثرين والضعفاء في التحصيل العلمي، في فرص التعليم والمنح الدراسية والتعيين في الوظائف المهمة والترقيات، أمام ناظر مجتمع يتوخى العدالة على مستوى قضيته، فوجد نفسه يفتقدها على مستوى سلطته، بشقيها المتخاصميْن في الضفة وغزة.

وبقطع النظر عن جدية أو عدم جدية الموقف السياسي للرئيس عباس حيال مشروع التسوية الإسرائيلي – الأميركي المشوه والظالم؛ يُعتبر مثل هذا السلوك خيانة لهذا الموقف الذي بات في أمس الحاجة إلى دعم ومساندة الطبقات الشعبية، لاسيما وأن المحتلين ومن يتعاونون معهم، يركزون على ظاهرة الفساد، لإضعاف الموقف السياسي الرسمي، من الأميركيين ومشروعهم.

أطاح عباس، كما هو مفترض، بجميع مستشاريه، لكن موجبات العمل الوطني الفلسطيني، خصوصاً في هذه المرحلة، تتطلب الإطاحة بظواهر كثيرة، واعتماد منهجية أخرى قبل فوات الأوان.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com