المغالطة في فرضية "العسكر"
المغالطة في فرضية "العسكر"المغالطة في فرضية "العسكر"

المغالطة في فرضية "العسكر"

عدلي صادق

يركز الخطاب “الإخواني” والمتناغمون معه، على مقولة “حكم العسكر” أو محاولات “العسكر” أخذ المبادرة للعمل السياسي، في حال الفوضى التي تتهدد الدولة بالانهيار أو الوقوع في مأزق النزاع الأهلي. وعلينا أن نعترف أن التاريخ المعاصر، شهد تجارب من سيطرة عسكر موصول بمراكز الاستعمار القديم، على الحكم في بعض البلدان، ولاقت تلك التجارب عداء مستحكما، من عناصر عسكرية وصلت إلى الحكم، وعملت بعدئذ على ترسيخ عناصر الدولة المدنية، بالمعنى العلمي لمعنى هذه الدولة ووظائفها.

فمن بين التجارب مع العسكر، هناك وطنيون، أثبتوا أنهم تصرفوا، كل في زمنه، عن إدراك للبعد الاجتماعي للسياسة. فالعسكري أولا وأخيرا هو مواطن، وكما أن هناك مواطنا مثقفا؛ هناك مواطن ضحل الثقافة. الأول يصلح للسياسة ولأن يعود لكي يؤدي دور الموظف العام المدني أو الزعيم السياسي، والثاني عندما يقفز إلى الحكم، يكون مفتوحا على هذه أو تلك من المناخات التي يمكن أن تذهب به إلى الاستبداد وإلى الخراب الاقتصادي وإلى مجافاة الطابع المدني في الحكم، بل مجافاة المدنية ذاتها. والشيء نفسه يمكن أن يحدث مع الساسة المدنيين. فكثيرون منهم فعلوا أعتى مما فعله عسكريون مستبدون، تخريبا في بلادهم.

هذا التمييز، بين عسكري وعسكري، مطروق في خطاب الطيف الحزبي الإسلاموي، الذي يعمم الآن مقولة حكم العسكر. فعمر حسن البشير عسكري انقلابي، وقبله الجنرال الباكستاني محمد ضياء الحق، لكن الرجلين- كمثالين- حظيا بتأييد الإسلامويين، بشفاعة أن كلا منهما، اختار لخطابه اللون الأيديولوجي الذي يلائمه، دون الالتزام بأخلاقياته على صعيدي النزاهة والعدالة. لكن الاعتراف بوطنية العسكري الذي يخالف توجهاتهم وإسهاماته في رفع شأن بلاده ومناهضته للاستعمار، لم يكن واردا، بل العكس هو الصحيح، إذ خاضت “الجماعة” معارك مع العسكريين الوطنيين، منذ أكثر من نصف قرن، ولا تزال ذيول هذه المعارك قائمة حتى الآن.

في أحاديث فرضية العسكر، ينكر الإسلاميون الأدوار التي قام بها عسكريون، لإحداث التغيير في بلادهم، حتى وإن قام واحد منهم بإنهاء نظام حكم انعقد شبه إجماع شعبي على معارضته، ثم سلم الحكم للمدنيين في عملية انتخابية، مثلما فعل الجنرال عبدالرحمن سوار الذهب في السودان، الذي أطاح بحكم جعفر نميري عام 1985 وغادر الحكم في العام التالي، لكن حركة حماس التي نفذت انقلابا عسكريا على النظام الفلسطيني في غزة، تمسكت بالحكم منذ عام 2007 وليست هناك بادرة حتى الآن تنم عن استعدادها للعودة إلى الخيار الديمقراطي، على ما في خطورة ذلك على القضية الفلسطينية.

ومن الأمثلة الأخيرة، استجاب العسكريون في السودان نفسه، وفي الجزائر، للحراك الشعبي في البلدين، وأطاحوا بالبشير وعبدالعزيز بوتفليقة، ولم تكن الإطاحة ممكنة، لو أن العسكر انحاز لرأس النظام. وفي هذين المثالين، قيل بلسان الأوساط الإسلامية إن هدف العسكر في البلدين، كان الالتفاف على الحراك الشعبي ومحاولة احتوائه، وكأن الأصح، هو ترك الدولة تنهار على مسمع ومرأى من قواتها المسلحة.

على الرغم من ذلك يظل من باب الموضوعية، الإقرار بحق الشعب، وليس الأوساط الإسلامية وحدها، في إبداء موقف الحذر من إمساك الجيش بزمام الأمور الأمنية العامة، لاسيما عندما يطول أمدها، والاعتراف بأن القوات المسلحة، شأنها شأن القوى المدنية، تتعرض للضغوط الداخلية والخارجية، وتتعاطى معها سرا أو علانية، بحكم علاقاتها في أوقات الاستقرار مع جهات دولية عدة، كما بحكم تأثرها بالاحتكاك مع جيوش ودول من خلال التدريب والتسليح، بخاصة وأن معظم برامج التدريب تكون موجهة، ويتأثر بها الطرف المستفيد، وهذا أمر مطروق في التاريخ، وعرفته الدولة العثمانية التي تأثر جيشها ببرامج التدريب الألمانية.

ولا ينبغي التغاضي عن كون الجيوش في البلدان العربية، ذات طابع اجتماعي، لأنها تشتمل على جميع أطياف الشعب، سواء من خلال الخدمة الإلزامية التي لا تستثني أحدا، أو بحكم كونها ذات سمة تراتبية منضبطة، تجعلها القوة الوطنية المنظمة، في غياب الأحزاب السياسية الوازنة والرصينة.

صحيح أن الجيش في السودان، حتى بعد تنقيح الصف الأول لقياداته، ورغم اعتقال الرئيس الذي كانت إطاحته هدف الحراك الشعبي؛ ظل على ارتباطه بالدولة العميقة، مع إعلان التزامه بأهداف الحراك الشعبي. فليس من اليسير، أن يجري اقتلاع جذور هذه الدولة العميقة بعد عقود من انزراعها.

فالرعونة على هذا الصعيد تتهدد الدولة، ثم إن قيادات الجيش السوداني ترعرعت في سنوات حكم البشير، وعلت رتبها مع رسوخ الولاء له كقائد أعلى، بل امتثلت لتوجهاته وخاضت صراعاته الداخلية، وهكذا هو حال الجيش في كل بلد وفي ظل أي نظام. لذا فإن الاستجابة لأي حراك شعبي، تراعي الالتزام بأعراف الدولة وقوانينها، وتركز على رأس هرم السلطة وتتنكر له استجابة لصرخة الشعب، وتحرص الجيوش في مراحل التغيير على استذكار دورها الأساس، كما في الجزائر والسودان، الحفاظ على الدولة وضمان هيبتها وحفظ النظام العام.

ولعل هذا الأمر هو الذي خلق الهاجس الأمني المبالغ فيه، ودفع قطاعا من الجيش في السودان، يتمثل في “قوة الدعم السريع” بقيادة الجنرال “حميدتي” إلى ارتكاب المجزرة التي أودت بحياة متظاهرين سلميين. ولا ننس أن هذه القوة، ليست معطوفة تاريخيا على الجيش المنضبط في السلم والحرب، لأنها في الأصل تكونت من ميليشيا “جنجويد” وكانت الذراع العسكرية للبشير في دارفور، وهي التي تسببت للبشير في مأزقه باعتباره مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية.

الأمور في السودان تتجه إلى تنفيذ اتفاق تم التوصل إليه في الرابع من هذا الشهر بوساطة إثيوبية يتعلق بالمرحلة الانتقالية، يقضي بتقاسم السلطة خلال فترة انتقالية تقود إلى انتخابات عامة. ما يعني أن اتفاق الحل يضمن نجاة الدولة وتماسك الجيش، مع تلبية مطالب الحراك عبر التمكين للإرادة الشعبية، ويُعزى الفضل في اختصار المسافة لهذا الهدف لمبادرة الجيش بإطاحة البشير.

معلوم أن حكم العسكر، لن يكون البديل الوطني الديمقراطي للمجتمع والحكم المدني وتعزيز ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية، ومعلوم أيضا أن هذه الأهداف، ليست في موضع الرفض أو الجفاء من قبل العسكريين الوطنيين، بل إن هؤلاء يمكن أن يساعدوا عليها ويكون لهم الدور الحاسم في تحقيقها.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com