المخاض المصري العسير
المخاض المصري العسيرالمخاض المصري العسير

المخاض المصري العسير

خيري منصور

هذه ليست المرة الأولى التي تعاني فيها مصر من مخاض عسير، ولا يحتاج المرء إلى إعادة قراءة الجبرتي وابن إياس كي يعرف ما مرت به الكنانة من عذابات ومكابدات، لأن ما يطفو على سطحها وعلى نيلها يشهد بذلك، لكنه يشهد أيضاً على قدرتها على التخطي والتجاوز، ليس فقط بفضل عبقرية الجغرافيا التي تحدث عنها الراحل د . جمال حمدان مطولاً، بل بفضل تاريخ استمر ألفيات عدة، وعاشت مصر تحت سقفه بقابلية نادرة على الدمج والاستيعاب، حيث لها كما يشهد حتى غزاتها مهارة في التمصير .

وغالباً ما يستشهد من يتناولون هذه الظاهرة بسليمان باشا الذي هو في الأصل فرنسي، والمخاض المصري الآن هو مجرد فصل في كتاب ولا تحتاج فيه إلى عملية قيصرية، لأنها ذات باع وخبرة في الولادة، ولها من الاحتياطات ما يكفي لترميم كل نقصان في الحاضر، لكن ما استجد عليها في هذه الآونة هو تعرض الدولة للتفكيك، والخلط غير المنطقي بين النظام والدولة، بحيث رأى البعض أنهما دائرتان لهما محيط واحد ومركز واحد أيضاً، هذا بالرغم من أن النظم تتبدل وبمعنى أدق تستبدل إذا توفرت الإرادة الشعبية، لكن الدولة وفق أبسط تعريفاتها شيء آخر، لأنها إذا تداعت وفقدت تماسكها تصبح البلاد كلها على كف مغامر .

ومن سمات مصر هذه الجدلية المستمرة بين نكوص ونهوض، وبين مد وجزر، وتلك مسألة بديهية في تاريخ الأمم كلها، لهذا فأي اختزال للمشهد المصري الآن يفضي إلى قراءات واستنتاجات قاصرة، لأن ما يدور في العمق أبعد مما يلوح على السطح وأشد تعقيداً، وما ترسب من خبرات ومشاريع نهضوية وريادة في التنوير قد يهجع لبعض الوقت لكنه لا يموت، وما يحدث الآن هو انفجار المؤجل، وما كان يمكن حدوثه بالتقسيط يحدث الآن بالجملة، وذلك لأسباب عدة قد يكون الاقتصادي بكل إفرازاته في مقدمتها .

والرهان على أن مصر سوف تعبر الأزمة ليس مجازفة، لأنه يحتكم إلى قرائن وحيثيات لا ينفع معها التنجيم أو ضرب الأخماس بالأسداس، والبلد الذي تم إفقاره لعقود ليس فقيراً والذي تم تجهيله أيضاً من خلال ارتفاع نسبة الأمية فيه ليس جاهلاً، فأول أكاديمية أنشئت في المنطقة كانت في مصر قبل قرن، وفي زمن الملك فؤاد الذي حملت اسمه زمناً .

إن مصر الآن تعيد طرح السؤال الذي طالما جرى التواطؤ على تجاهله وهو هل هناك مصر بلا عرب أو عرب من دون مصر؟

الأحداث الأخيرة قدمت الإجابة ولو بشكل أولي، وما تعبر عنه الدبلوماسية المصرية الآن حول الهوية ومنه ما جاء على لسان وزير خارجيتها، يصحح خطأ تاريخياً حاول البعض تبريره لأسباب طارئة، وفي ظروف استثنائية .

وإذا صح ما قاله المتنبي الذي عاش في مصر زمناً وهو على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فإن أزمات مصر لا يفاجئنا حجمها، كما أن قدرتها على العبور لا تفاجئ إلا من أرادوا بها الشرور كلها وليس شراً واحداً فقط.

(الخليج الإماراتية)

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com