حديث الصفقة الذي كان يدق الباب!
حديث الصفقة الذي كان يدق الباب!حديث الصفقة الذي كان يدق الباب!

حديث الصفقة الذي كان يدق الباب!

سليمان جودة

ما أبعد المسافة بين الموقع الذي كانت صفقة القرن تجد نفسها فيه، قبل بدء شهر رمضان، وبين الموقع الذي يبدو أنها قد راحت تنحدر إليه وتتدحرج منه مع قُرب نهاية الشهر!، فعند بدايته كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أذاعت أخباراً عن أن الصفقة التي يسمع عنها الفلسطينيون ومعهم العالم، ثم لا يرون منها شيئا رغم طول الترويج لها، سوف تخرج إلى العلن مع نهاية شهر الصيام، وأن ذلك سيحدث فيما بعد عيد الفطر، الذي يتوازى مع عيد التوراة الموافق يومي السابع والثامن من هذا الشهر!

حدث هذا قبل ثلاثين يوماً تقريباً، وبدا كل متابع للصفقة منذ بداية الحديث عنها، متحسباً لما سوف يكتشفه منها للمرة الأولى، عندما يجري الكشف عن صفقة سياسية طال الكلام حولها، دون أن ينتبه الذين تكلموا عنها مراراً، إلى أنهم يتعرضون لشيء غارق في الغموض، وأنهم يتحدثون عن مسألة لم يكشف عن حقيقتها صاحبها نفسه!

وكانت الرسالة الأقوى في مواجهة الصفقة قد انطلقت من القمم الثلاث التي انعقدت في مكة المكرمة، خلال الأسبوع الأخير من رمضان، فلقد كان من المقرر مسبقاً أن تنعقد القمة الإسلامية في أيامه الأخيرة، ولكن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، دعا إلى قمتين طارئتين، خليجية وعربية، فانعقدتا في اليوم السابق على موعد انعقاد القمة الإسلامية!

صحيح أن إطلاق رسالة واضحة إلى حكومة الملالي في طهران، كان لا بد أن يكون على رأس جدول أعمال القمم الثلاث، وصحيح أن رسائل التصعيد التي خرجت من طهران طوال أسابيع مضت، كانت في حاجة إلى رسائل قوية في المقابل، على المستوى الخليجي والعربي والإسلامي، وهذا بالفعل ما حدث، غير أن الصحيح أيضاً أن انشغال القمم الثلاث بوضع الأمور في مكانها، فيما يخص السياسة الإيرانية المُخربة في المنطقة، لم يجعل القادة الذين التقوا في مكة ينسون أن هناك قضية مركزية اسمها القضية الفلسطينية، وأن المساس بوضع القدس الشرقية مرفوض، وأنه لا حل سوى قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967!

وهذا تماماً ما خرج في بيان كل قمة على حدة، وهذا ما جعل الرئاسة الفلسطينية تقول على لسان متحدثها الرسمي، نبيل أبو ردينة، إن قرارات القمم الثلاث، وخصوصاً القمتين الخليجية والعربية الطارئتين، كانت انتصاراً للموقف الفلسطيني!

ولم يشأ متحدث الرئاسة الفلسطيني الرسمي أن يقول كلاماً عاماً، ولكنه راح يحدد بالضبط كيف كانت القمم الثلاث انتصاراً لحقوق شعبه المشروعة، ثم كيف كان واضحاً في بيان كل قمة أنها ترفض أي صفقة لا تنسجم مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني!

وكان المعنى أن الصفقة مرفوضة على المستويات الثلاثة، الخليجي والعربي والإسلامي، ليس لمجرد رفضها في حد ذاتها، ولكن لأن الطرف الفلسطيني يرفضها، وما دام هذا هو موقفه باعتباره طرفاً مباشراً في القضية، فلا يستطيع طرف عربي أو إسلامي، إلا موافقته على موقفه، ومساندته فيه، ومساعدته في طريق إقامة دولته على أرضه المحتلة، وفق ما تقول القرارات الدولية ذات الصلة بالموضوع!

وكانت اللغة الواضحة التي تحدثت بها بيانات القمم الثلاث في هذا الشأن، إشارة كافية إلى أن الصفقة تواجه مشكلة كبيرة لم تكن إدارة الرئيس ترمب تتحسب لها، وهي تبشر بقرب الكشف عن تفاصيل صفقتها، وبدا أن طريق الصفقة ممتلئ بالعقبات التي تحول دون مرورها إلى نهايته!

وعندما عجز بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل عن تشكيل حكومته الجديدة، بدا أيضاً أن الذين بشروا بالصفقة قبل رمضان، كانوا متفائلين أكثر من اللازم، فنتنياهو وجد نفسه مضطراً في النهاية إلى الذهاب لانتخابات جديدة في 17 سبتمبر (أيلول) المقبل، بعد أن قرر الكنيست حل نفسه، وبالتالي، فليس من الممكن أن نتحدث عن حكومة مستقرة في تل أبيب، قبل نهاية هذا العام تقريباً، وإذا كان هذا هو حال الطرف الإسرائيلي، ثم حال الطرف الفلسطيني من قبل، وهما الطرفان الأصيلان في أي حديث عن الصفقة، أو عن احتمالات نجاحها، فليس أمام صاحبها إلا أن يراجع نفسه، وإلا أن يهدئ من اندفاعه، وإلا أن يصارح نفسه كذلك، بأن صفقته لن تهبط من سمائها لتنفذ نفسها، في غياب طرفيها، ولن يكون في مقدورها فرض شيء على الفلسطينيين لا يريدونه، ولا يجدونه تعبيراً عن سقف طموحهم الطبيعي في قيام دولة فلسطينية إلى جوار الدولة الإسرائيلية!

وجاء حديث مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، أمام مؤتمر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، وكأنه الضلع الثالث الذي يغلق الطريق أمام الصفقة، فوقوف الوزير أمام مؤتمر بهذا الاسم في واشنطن يوم الثلاثاء الأخير من رمضان، لم يمنعه من الإدلاء بحديث صريح حول الصفقة، وحول مستقبلها، وحول فرص النجاح التي تنتظرها في آخر الطريق!

إن المتحدث هنا هو وزير خارجية ترمب نفسه، والمحفل الذي استقبل حديثه هو مؤتمر للمنظمات اليهودية، والتوقيت هو آخر رمضان الذي كان قد تحدد من قبل موعداً للإعلان عن تفاصيل الصفقة، فهل هناك علاقة بين هذا كله، أم أنها محض مصادفة؟!

لا يمكن بالطبع أن يصل ترتيب الصدفة إلى هذا الحد الدقيق المحكم، ولا يمكن أن يقف بومبيو أمام المؤتمر ليقول إن الصفقة غير قابلة للتطبيق، وإنه يتفهم الانطباع بانحيازها إلى إسرائيل، وإنه يشك في إمكانية نجاحها، ثم يكون هذا كله من قبيل الصدفة.. لا يمكن!

وقبل ختام رمضان بيومين اثنين، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يتحدث في حفل إفطار في القاهرة، فطمأن المصريين على أن أي ربط بين الصفقة وبين سيناء هو خيال مجرد، وأن الكلام عن مبادلة أرض مصرية في سيناء بأرض أخرى هو من نسج خيال أصحابه، وأن سيناء يملكها المصريون الذين لا يقبلون تفريطاً في شبر منها، وأن القاهرة لا تتحدث باسم الفلسطينيين، ولا تقبل شيئاً لا يقبلون هُم به راضين!

ومن قبل رمضان بأسابيع، كان قد قيل إن الصفقة موجودة في يد أربعة مسؤولين أميركيين حصرياً، وإنهم وحدهم المسموح لهم بالاطلاع عليها وعلى خطوطها العريضة، وإن جاريد كوشنر، صهر ترمب ومستشاره، هو واحد من هؤلاء الأربعة، وإن بومبيو ليس منهم، ولا جون بولتون، مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، فهل كان شيء من هذا يقف وراء حديث وزير الخارجية المفاجئ عنها؟!

ربما.. ولكن الواضح من كل هذه التطورات في اللحظات الأخيرة، أن دماء الصفقة راحت تتفرق بين القبائل، في الوقت الذي كان فيه شهر رمضان يقترب من نهايته، وفي الوقت الذي كان موعد الإعلان عنها يدنو ويدق الباب، ثم الواضح كذلك من قراءة هذا كله، ومن ربطه بعضه بالبعض، أن الأربعة الذين احتكروها سوف يبوءون بها في الغالب، وسوف لا يبقى منها غير اسمها الذي ظل يشير إلى شيء لا نراه نحن ولا يحدده هو!

الشرق الأوسط

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com