عن البابوية والحوار مع العالم الإسلامي
عن البابوية والحوار مع العالم الإسلاميعن البابوية والحوار مع العالم الإسلامي

عن البابوية والحوار مع العالم الإسلامي

إميل أمين

خلال الأيام القليلة المقبلة، يحل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية ضيفًا على دولة التسامح مع الآخر والتصالح مع الذات، دولة الإمارات العربية المتحدة، مشعل التنوير في الأزمنة الحديثة إقليميًا ودوليًا. ويأتي الحبر الأعظم برسالة من الإخوة، والتضامن الإنساني الخلاق، ليكمل سعي أحبار عظام سبقوه في درب البابوية على طريق تعميق الحوار والجوار مع العالم الإسلامي، وتحت مظلة من الإنسانية التي تجمع البشر دون تمييز بسبب جنسٍ، أو لونٍ، أو مذهبٍ، أو عقيدةٍ، لاسيما أنه كما يقول النص القرآني:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً).

ومثير جدًا البحث في أعماق تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وكيف أنها قادرة على تصحيح الأوضاع، وتغيير الطباع، إذ هي تقرأ الأزمنة والأحداث بروح خلاقه تقفز على الموروثات التقليدية وفي الوقت عينه تتجاوز العقبات التاريخية، فمن أزمنة مواجهة، وحروب، ودمار، إلى أوقات سلام، ووئام، وبحث عن المصير المشترك الواحد.

ويمكن القول إن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد مهَّد الطريق لهذا الحوار، خلال ستينيات القرن الماضي، إلا أن البابا يوحنا بولس الثاني الكبير، وإن كانت قضيته ومواجهته الأولى مع الشيوعية، إلا أنه أولى قضية الحوار والتقارب مع العالم الإسلامي أولوية أيضًا ضمن اهتماماته طوال حبريته التي دامت أكثر من ربع قرن. ويكفي أن التاريخ سيكتب أنه البابا الأول للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، الذي دخل الأزهر الشريف مُرحبًا به، وبهتاف من القلوب قبل العقول في مشهد يخلده التاريخ.

وكتب المؤلف الألماني والمؤرخ لحاضرة الفاتيكان «هاينز يواكيم فيشر» عبر كتابه «بين روما ومكة...البابوات والإسلام»، قائلًا إنه في نهاية العقد، ونهاية القرن العشرين، ونهاية الألفية، وبعد إجراء الكثير من الموازنات النظرية، وجد الفاتيكان موقفه المبدئي حيال الإسلام، فالبابا يوحنا بولس الثاني وضع في نطاق اللقاء العام معه في الخامس من مايو 1999، توجيهات للحوار بين الكاثوليك والإسلام.

وحظيت هذه التوجيهات بالانتباه البالغ لدى المسلمين، حيث تم الاستشهاد بها مرارًا، ولم تزل سارية المفعول، وما زيارة البابا فرنسيس للإمارات والمؤتمر الكبير الذي سينعقد هناك تحت شعار «إخوة وتضامن»، إلا دليل على أنها فاعلة وناجزة عبر التاريخ. ويؤكد باباوات روما من يوحنا بولس الثاني إلى فرنسيس على النية الصادقة لتعميق موضوع الحوار بين أتباع الأديان، وإنعام الفكر بإجراء حوار مع المسلمين الذين يعبدون إلهًا واحدًا رحيمًا، وأن الكنيسة تنظر إليهم بعين الإعزاز. فهي مقتنعة بأن إيمانهم بإله غيبي يساهم في إقامة عائلة إنسانية جديدة، تقوم على أسمى التوقعات النابعة من القلب الإنساني. وفي زيارة فرنسيس إلى الإمارات إشارات لا تخطئوها العين، لاسيما أن الحوار -دومًا وأبدًا- بين أبناء إبراهيم يُفضي إلى معرفة وتقدير أعمق للطرف الآخر، وكلا التراثين المسيحي والإسلامي، لهما تاريخ طويل من الدراسة، والتأملات الفلسفية واللاهوتية، بالإضافة إلى الفن، والأدب، والعلوم، مما ترك لهما آثارًا في ثقافات الغرب والشرق.

وتحمل رحلة فرنسيس إلى الإمارات معنى ومبنى متقدمين غاليين وعاليي القيمة يتمحوران حول عبادة الله الواحد الأحد، الخالق لجميع البشر، تلك العبادة العقلية التي تشجعنا على تعميق معرفتنا المتبادلة في المستقبل. فالمسيحيون والمسلمون مدعوون في عالم اليوم الموسوم بنسيان الله بصورة مأساوية، إلى التحلي دومًا بروح المحبة في العمل على الدفاع عن كرامة الإنسان، والقيم الأخلاقية، والحرية ودعمها.

وتقودنا روح التسامح والتصالح على أرض الإمارات إلى حتمية السعي إلى إيجاد درب الحج المشترك نحو الأبدية، من خلال الصلاة، والصوم، وأعمال المحبة المشتركة، وفي العمل التضامني من أجل السلام، والعدل، والتنمية البشرية، وحماية البيئة. وزيارة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى الإمارات كأول خليفة لماربطرس يطأ أرض الخليج العربي، أمر لو يعلم المرء عظيم، ذلك لأنه يحطم على فعل التلاقي، نظريات المواجهة والصراع الجبري التي أراد البعض أن يُغلف إنسانية القرن الحادي والعشرين في إطارها، كما فعل عالم الاجتماع السياسي الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون بمحاولته تقسيم العالم إلى فسطاطين واحد للسلم، وآخر للحرب، ومعسكر يهودي مسيحي غربي، في مواجهة تحالف إسلامي كونفوشيوسي شرقي. أما كيف ذلك، ففي فرح اللقاء السر، وفي الإخوة والتضامن الإيجابي من أجل خدمة البشرية الآليات التي تؤكد زيف الحتمية الجبرية للاقتتال، والحروب الاستباقية. وبالقدر نفسه تأتي الزيارة لتبيّن لنا أن نهاية التاريخ التي بشر بها «فرنسيس فوكاياما» بعيدة جدًا، فها هو على أرض الإمارات يكتب فصلًا جديدًا من فصول تاريخ التفاهم، والتلاحم الإنساني، دون مغالاة، أو تزيد.

والشاهد أنه إذا سرنا معًا على طريق المصالحة باستسلام خاشع لإرادة الله، وتنازلنا عن أي شكل من أشكال العنف كوسيلة لحل الخلافات في الرأي، فإن بإمكان مسيحيي ومسلمي العالم أن يضعوا علامة للأمل، وأن يجعلوا حكمة ورحمة الله الواحد الذي خلق العائلة البشرية ومازال يوجهها، تضيء العالم.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com