لماذا يترك المحافظون التاتشرية؟
لماذا يترك المحافظون التاتشرية؟لماذا يترك المحافظون التاتشرية؟

لماذا يترك المحافظون التاتشرية؟

حازم صاغية

بدا مفاجئاً للبعض أن يعلن وزير الخزانة البريطاني فيليب هاموند، عند إطلاقه موازنته السنوية، عن انتهاء العمل بالتقشّف المالي، وبالتالي عن رصد مليارات الجنيهات لتعزيز الضمان الصحي المتداعي ولإنعاش عدد آخر من الخدمات الاجتماعية.

ثمة من ربط الأمر بالبريكيست وبالسجال حولها داخل حزب المحافظين البريطاني الحاكم، خصوصاً وأن المحافظين الأكثر تشدداً في طلب الخروج من الاتحاد الأوروبي هم الأكثر إصراراً على نزع دور الدولة، وعلى التمسك بالعقيدة التاتشرية في التقشف والخصخصة.

أهم من ذلك، كما يقول بحقٍ الكاتب البريطاني مارتن كِتل، كان السجال داخل حزب المحافظين نفسه حول دور الدولة. فالمعروف أن هذا الحزب، قبل صعود مارغريت تاتشر في الثمانينيات، كان يتمسك بالدور المذكور، ولو في حدود تنظّم العملية الرأسمالية وتحول دون تخريب فكرة «الأمة الواحدة» و«الشعب الواحد». هنا، يعود النقاش إلى جذره، أي إلى آدام سميث نفسه. فهذا الاقتصادي والمفكر الكبير الذي ارتبط باسمه مبدأ حرية السوق، هو أيضاً من أكد على دور الدولة في حماية الأمة وفي إقامة العدل وفي تزويد المجتمع بالخدمات العامة، كالأشغال والبنى التحتية والمدارس المحلية وسواها، لا بل على دورها كمنظِّم لعمل الأسواق.

لقد تأدى عن صعود التاتشرية وسيادتها إغفال لهذا البعد في الفكر الرأسمالي لصالح التشديد على الخصخصة والتقشف وحدهما، إذ، وبحسب عبارة شهيرة لتاتشر نفسها، «ليس هناك شيء اسمه المجتمع».

لكن ما تشهده بيئة المحافظين اليوم يشبه نبش ذاك التقليد وإعادة الاعتبار إليه. ومن هذا القبيل، كما يذكر مارتن كِتل، تنبعث مواقف كتلك التي عبّر عنها، منذ 1938، هارولد ماكميلان، رئيس الحكومة المحافظ في الخمسينيات وأوائل الستينيات، حين قال: «ما لم نستطع المضيّ في هذا التطوّر السلمي من رأسمالية حرة إلى رأسمالية مخطّطة، أو ربّما إلى تركيب جديد من النظريتين الرأسمالية والاشتراكية، فلسوف يكون الأمل ضئيلاً في الحفاظ على الحريات المدنية والديمقراطية والثقافية».

لكنْ لماذا الآن؟

لقد بات واضحاً، ليس في بريطانيا فحسب، بل في عموم أوروبا وفي العالم، أن اتساع التفاوت الاقتصادي سبب بارز وراء الصعود الشعبوي والقومي المتطرف. أما في بريطانيا تحديداً، فجاء التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، أي البريكيست، دليلاً بليغاً على ما تؤول إليه الأمور بسبب التفاوت المذكور. فقد تولى شعبويون محافظون، كوزير الخارجية السابق بوريس جونسون، أو القائد الشعبوي السابق لحزب «استقلال المملكة المتحدة» نايجل فاراج، تسويق البريكيست وتعبئة الفئات المحبطة من البريطانيين بها وبوعودها. وغني عن القول إن جزءاً وازناً جداً من البورجوازية البريطانية التي تجد في أوروبا مصالحها، يَعتبِر حزبَ المحافظين بيتَه السياسي.

إلى ذلك، يطل برأسه تحدي حزب العمال المعارض في ظل قيادة جيريمي كوربن اليسارية والشعبوية. فقد استطاع كوربن، بالاستفادة من الأزمات الاقتصادية في تضامنها مع الأزمة السياسية للديمقراطية، أن يحوّل حزبه إلى الحزب الأكبر في أوروبا كلها من حيث عضوية المنتسبين. وبعدما ضرب اليأس من السياسة والتغيير قطاعات الشبّان، استعاد هؤلاء حيويةً دفعت بهم مجدداً إلى العمل الحزبي كما يتجسد في حزب كوربن.

وفي هذا المعنى، تأتي الاستجابة الأخيرة للمحافظين شبيهةً بما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، حين تولت «دولة الرفاه» واعتماد مبادئ الاقتصاد الكينزي قطع الطرق على القوى الأشد تطرفاً وراديكالية. فهل يبرهن البريطانيون مرة أخرى –وهم ذوو التقاليد البراغماتية والتجريبية العريقة– أنهم مستعدون لأن يكونوا طليعة من يراجع ويغير الدوغمائيات، وأنهم بالتالي طليعة من يتصدى للشعبوية التي تقتات على تفاوت اجتماعي لم يعد محتمَلاً أو مقبولاً؟

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com