من «نظرية الفراغ» إلى «الفوضى المدمرة»
من «نظرية الفراغ» إلى «الفوضى المدمرة»من «نظرية الفراغ» إلى «الفوضى المدمرة»

من «نظرية الفراغ» إلى «الفوضى المدمرة»

جلال عارف

في منتصف القرن الماضي، بينما الولايات المتحدة الأمريكية تستعد لوراثة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في المنطقة، بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي المنتصر الأكبر..

إذا بها تواجه تحدياً جديداً في المنطقة، وهو تصاعد الحركة القومية العربية الساعية للاستقلال والتحرر والنهضة واستعادة الثروات المنهوبة وبناء الدولة الحديثة. وكان ذلك يجري في ظل اشتعال الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وتبني الولايات المتحدة لنظرية حصار الاتحاد السوفيتي واحتوائه واستنزاف قدراته.

وعلى الفور أعلنت واشنطن خطتها للتعامل مع المنطقة، والتي كان لا بد أن تصطدم بآمال الشعوب العربية، حيث انطلق الموقف الأمريكي الذي كان وراءه وزير الخارجية الأمريكية القوى يومها جون فوستر دالاس، والذي تبناه الرئيس الأمريكي أيزنهاور، من أن هناك «حالة فراغ» في الشرق الأوسط، وهناك خطرا قادما من الاتحاد السوفيتي، وأن دول المنطقة (المستقلة أو التي كانت لا تزال تحت الاحتلال) غير قادرة على مواجهة الخطر أو ملء الفراغ.

والحل – كما رأته واشنطن - هو قيام الأحلاف التي تضم بعض الأقطار العربية الهامة، بالإضافة إلى القوى الإقليمية غير العربية (تركيا وإيران وأحياناً باكستان)، مع قوى الاحتلال البريطاني والفرنسي التي كانت لا تزال تسيطر على أجزاء كبيرة من الوطن العربي، بالإضافة طبعاً إلى القيادة الجديدة للمعسكر الغربي متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية.

في ذلك الوقت، رفضت مصر هذا المنطق، وقاد جمال عبد الناصر معركة شرسة ساندته فيها كل الشعوب العربية.

وشهدت السنوات التالية صعود حركة القومية العربية ونهاية الاستعمار القديم، بعد هزيمته الحاسمة في حرب السويس عام 1956، واستقلال الدول العربية من المحيط إلى الخليج، وبدء استرداد الثروات العربية المنهوبة، بدءًا من قناة السويس وحتى البترول العربي.

لكن الحرب على تحرك العرب نحو الوحدة والتقدم لم تتوقف، ومحاولات بث الفرقة وتمزيق الصف العربي لم تتوقف أيضاً، لا من جانب الأعداء ولا من داخل الصف العربي، حتى كانت هزيمة 67 التي كشفت عن أخطائنا الجسيمة، لكنها كشفت أيضاً أن جهد السنوات الماضية لم يذهب هدراً. وهكذا لم يتم الاستسلام للهزيمة، وبدأ البناء من جديد، وكان تحالف أكتوبر الذي انتصر في معركة العبور.

وما حدث بعد ذلك كان جهداً دؤوبا لضرب هذا التحالف العربي الذي انتصر في أكتوبر، ومنع بناء القوة العربية الموحدة القادرة على حماية الأمن العربي، لتكون النتيجة بعد أربعين عاماً هي هذا المشهد الذي نراه الآن..

حيث دول عربية كبيرة يتم تدميرها، وعصابات إرهاب يتم إطلاقها، وخرائط جديدة للمنطقة يجري تنفيذها، وقوى دولية وإقليمية تسعى لمد نفوذها في المنطقة على حساب العرب ومصالحهم.. وربما أراضيهم أيضاً! ولولا إنقاذ مصر في 30 يونيو، ووقوفها مع دول الخليج وفي مقدمتها السعودية في وجه المؤامرة، لكان الموقف أسوأ مما نراه بكثير!

وقد يتساءل القارئ العزيز هنا: لماذا هذه العودة المطولة إلى الماضي ونحن نواجه أشد المخاطر التي تحتاج لتركيز جهودنا على إنقاذ الوضع الحالي؟ والإجابة ببساطة، أن ما نذكره من وقائع لا يستهدف إلا التعامل مع التحديات التي نواجهها آخذين العبرة مما جرى! ولنبدأ بملاحظة أساسية، وهي رد فعل القوى المعادية على إنقاذ مصر من براثن حكم الإخوان، ومن مساندة الأشقاء في الخليج، وتبلور بداية تحالف عربي في مواجهة الإرهاب ومخططات التقسيم! أليس غريباً أن دعم أمريكا وحلفائها للإخوان ومجافاتهم للنظام الجديد في مصر وهو يواجه الإرهاب الداخلي والخارجي.

تزامن مع انطلاق «داعش» لتلتهم ثلث العراق وسوريا، وتباطؤ غريب ومشبوه من قوى محلية وإقليمية، لتتحول «داعش» خلال أيام قليلة إلى «بعبع» يتم تهديد المنطقة به، ويفتح الباب واسعاً أما صراع طائفي مطلوب أن تغرق فيه الدول والشعوب العربية، التي أدركت مرة أخرى أن ابتعادها عن عروبتها هو الذي أوصلها للمحنة الراهنة.

ثم، أليس غريباً أن نرى الصمت الغربي على ما كان يجري في ليبيا من مذابح شملت حتى الأمريكيين أنفسهم، ومن فوضى تهدد أوروبا كما تهدد مصر والجزائر وتونس وغيرها من دول الجوار؟! وأيضاً، ألم تسمع أمريكا ودول الغرب بما يحدث في اليمن، وهي التي أرسلت البوارج الحربية وأقامت القواعد العسكرية للحفاظ على حرية الملاحة في مضيق هرمز، وذهبت لتحارب في الصومال وغيرها خوفاً من أي تهديد لباب المندب؟!

أليست هي النظرية القديمة في ثوب جديد؟! أن عروبة العرب لا ينبغي أن تتحقق، وأن هناك فراغاً استراتيجياً في المنطقة لا بد من أن تشغله قوى غير عربية (دولية أو إقليمية)..

وإلا فسوف يسود «البعبع» الجديد الذي يبدأ من إرهاب «الدواعش» الذين تم إطلاقهم منذ البداية برعاية أمريكية(!)، ولا ينتهي بإطلاق صراع «الحوثيين» و«القاعدة» في اليمن، ووصول التمدد الإيراني إلى حدود السعودية، وإلى باب المندب.. بينما واشنطن وطهران تتفاوضان على الملف النووي، وتعدان العالم باتفاق قريب!

إنها «نظرية الفراغ» القديمة بصورة او بأخرى.. فقبل ستين عاماً كان «البعبع» هو السوفييت والشيوعية، والآن يطلقون في وجوهنا «الإرهاب» الذي صنعوه وما زالوا يدعمون بعض جماعاته، حتى وإن أعلنوا الحرب على جماعات أخرى! إنهم لا يريدون الاعتراف بـ«30 يونيو».

ولا بأن تحالف مصر مع السعودية والإمارات ودول عربية شقيقة أخرى، قد أفسد مخططاتهم للهيمنة على المنطقة بالتحالف مع جماعات ترفع الشعارات الإسلامية لتبيع الأوطان وتقطع الطريق على وحدة العرب..

كما فعلت منذ نشأت أولى جماعاتها على يد المخابرات الأجنبية قبل ثمانين عاماً!

إنها نفس النظرية القديمة بثوب جديد.. نفس الاستراتيجية التي تقوم على ألا يقوم نظام عربي يحقق التكامل بين الأقطار العربية، ويستطيع النهوض بها إلى المكانة التي تستحقها.

نفس المخطط الذي يخلق حالة «فراغ» يدعي أن العرب ليسوا قادرين على شغلها، وبالتالي فلا بد من قوة دولية وأتباع لها من القوى الإقليمية (غير العربية) لملء الفراغ، وبسط السيطرة على المنطقة، وتحويلها إلى رصيد في حروب عالمية سبقت (سواء كانت ساخنة أم باردة) أو في صراعات عالمية قادمة، بين الغرب من ناحية والصين من ناحية أخرى، خاصة إذا تحالفت مع روسيا وربما الهند أيضاً!

ما يجري الآن على الساحة العربية هو خلق المساحة المطلوبة لتطبيق نظرية «الفراغ» القديمة بثوبها الجديد، وبالفوضى «الخلاقة» التي يستخدمونها، وبمنظمات الإرهاب التي يقفون وراءها.

كل الأطراف لها استراتيجيتها في ما يجري، بينما يخوض العرب المعركة بلا استراتيجية واضحة أو خطة تجمع بين الدول العربية التي ما زالت قادرة على الفعل والتأثير والتصدي لكل هذه المخططات.

لدينا الآن قاعدة ارتكاز عربية من مصر والسعودية والإمارات، ولهذا يتم حصارها بالهجوم المضاد من أراضي ليبيا واليمن، بالإضافة إلى العراق وسوريا.

ولكن لدينا أيضا فرصة لتوسيع هذا التحالف العربي، إذا أدركت كل الدول التي مازالت تحتفظ بوحدتها الوطنية، أنها ستكون المحطة القادمة لهجوم الإرهاب ومخططات التقسيم والفوضى «الخلاقة!»، التي هي في صميمها العنوان الجديد لـ«نظرية الفراغ» التي لم يغادرها التفكير الغربي منذ ستين عاما و حتى الآن!

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com