«بو آو»... العالم من منظور صيني
«بو آو»... العالم من منظور صيني«بو آو»... العالم من منظور صيني

«بو آو»... العالم من منظور صيني

إميل أمين

بينما الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهموم ومحموم بالصراع مع سوريا، وفيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يناور ويداور بقدر ما تسمح له قوة بلاده عسكرياً واقتصادياً، يمضي الرئيس الصيني شي جينبينغ ليرسم معالم العالم وملامحه من منظور صيني، وبروح كونفوشيوس التاريخية... الهدوء والتريث، والاستعداد للمواجهة والمجابهة دون السعي إلى الصراع كهدف استراتيجي.

نهار الثلاثاء قبل الماضي كان الرئيس جينبينغ، الرجل الذي سيرتبط اسمه دون أدنى شك بالقفزة العصرانية الثالثة للصين، يفتتح منتدى «بو آو» الاقتصادي في جنوب الصين، ويشدد في كلمته على أن عقلية الحرب الباردة لم تعد تصلح كنسق أممي للعلاقات، لا سيما أن الصينيين قد ودعوا حالة العوز، وأحدثوا معجزة القرنين العشرين والحادي والعشرين معاً بعد أن استطاعت حكوماتهم بدءاً من زمن ماو تسي تونغ حتى الساعة انتشال 700 مليون صيني من براثن الفقر.

دافع جينبينغ لهذا الحديث هو حالة الأحادية الأميركية التي يؤمن بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وسيطرة فكرة «أميركا أولاً» على أنساق مخططاته الاقتصادية كأداة لشل النمو الصيني الذي سينحى إلى التصاعد والتفوق العسكري عما قريب.

مؤخراً رفع ترمب الرسوم على 1300 سلعة صينية، ما يكبد الصين قرابة 60 مليار دولار، ولم تمضِ 11 ساعة حتى كانت الصين ترد برسوم مضادة تكبد الأميركيين نحو 50 مليار دولار، لتشتعل حرب اقتصادية بين أكبر قوتين تجاريتين حول العالم.

لم يكن أحد يتصور أن الرد الصيني سيكون بهذه القوة وتلك السرعة معاً، وبثبات نفس غير مسبوق تزخمه وحدة الشعب الصيني حول زعيمه، الذي سيكتب اسمه في سجل الخالدين، ولأجل هذا فتح نواب الشعب الطريق أمامه إلى رئاسة غير محددة بسنوات معينة بعينها.

منظور الصين للعالم اليوم بات بالفعل يتجاوز عقلية الحرب الباردة، وفيما يعيش الرئيس ترمب ذهنية المعادلة الصفرية، حيث قوة بذاتها تستحوذ على كافة المكاسب، وتجني كل الأرباح دون أن تترك للآخرين مجالاً للحياة، متناسياً الشعار الذي أطلقه الفيلسوف والباحث الاقتصادي الأسكوتلندي آدم سميث «دعه يعمل دعه يمر» (laissez faire laissez passer) يمضي جينبينغ إلى أن حاجة العالم اليوم إلى السلام والتعاون والتنمية، ويؤكد أن الاغترار بالنفس والانشغال بالمصلحة الخاصة لن يجدي نفعاً، وأن الحاجة كل الحاجة إلى الانفتاح والتواصل والإصلاح، وأن من يرفض تلك الرؤية التصالحية مع المستقبل سوف يتخلف عن العصر وسينساه التاريخ.
مرة جديدة نذكر بأن أميركا - ترمب لا تزال أسيرة العقلية الأحادية الأرسطية، فيما الصين - جينبينغ، ومن قبله، نتاج حي لروح الوجود الكلي عند كونفوشيوس، ولولا القرار التاريخي الذي اتخذه الحزب الشيوعي الصيني تحت إشراف رجل العصر الثاني للصين الحديثة دينغ شياوبينغ بشأن الإصلاح والانفتاح، لما كان تصور المنجزات التنموية التي حققتها الصين اليوم.
تبقى الصين وعن حق «قصة كفاح شعب على جدار الزمن»، وقد أجادت في العقد الأخير فهم عمق التحولات والتبدلات التاريخية الإنسانية والاقتصادية، ولهذا رأيناها تمضي وراء بلورة تجمعات اقتصادية عالمية من نوعية منظمة شنغهاي، ولاحقاً بلورت رؤية «البريكس»، حيث جبهة ديموغرافية وجغرافية جديدة تقوم لتعطي مسارب أمل في عالم متحرر من ربقة الاستعباد لصندوق النقد الدولي وشريكه في التلاعب بمقدرات الأمم والشعوب، البنك الدولي، وكلاهما إرث من أزمنة العبودية الاقتصادية.
يضع الصينيون اليوم العالم أمام منظور مغاير لاتفاقية «بريتون وودز»، تلك التي ضمنت للدولار هيمنة وسيطرة غير محدودة، منظور يخير الجميع بين الانفتاح الخلاق أو الانعزال المتردي، وجل هدفهم تبديل الغيوم.
قطعاً لا يمكن أن تكون الصين ورؤاها «فردوساً للأطهار» أو «يوتوبيا» آسيوية، لا سيما أن شهوة الإمبراطورية دائماً ما تكون دالة للتفوق الاقتصادي والنفوذ المالي من زمن آل روتشيلد مروراً بعائلتي روكفلر ومورغان، وهيمنتهم على البنك الفيدرالي الأميركي، غير أنه ومع ذلك تبقى الآفاق للشراكات مع الصين أكثر مرونة وغير مقيدة بقيود آيديولوجية، أو بشعارات براقة يعلم الجميع أنها خادعة، كما قضايا الحريات وحقوق الإنسان والطهرانية السياسية، والحال يغني عن السؤال أميركياً تحديداً وتخصيصاً.
الصين في مرحلتها الثالثة اليوم تقدم للعالم نسقاً من اشتراكية مختلفة عما سبق وعرفه العالم؛ اشتراكية تقوم على الإصلاح في الداخل والانفتاح في الخارج، ولهذا تمضي في طريق تحسين بيئة الاستثمار للمستثمرين الأجانب، باعتبارها الهواء النقي الذي يجذب المزيد من الاستثمارات من الخارج، وفي مسار مواكب تعزز التوافق مع القواعد الاقتصادية والتجارية الدولية، وتدعو لزيادة الشفافية وتعزيز حماية حقوق الملكية والتمسك بسيادة القانون، وتشجيع المنافسة ورفض الاحتكار.
يمكن للصين إن أرادت أن توجه ضربة قاتلة للاقتصاد الأميركي، إن مضت في طريق بيع السندات الحكومية الأميركية التي تملكها، وتصل إلى نحو تريليوني دولار، لكنها لا تريد الوصول إلى تلك العتبة، وعليه يبقى السؤال قبل الانصراف: متى يدرك ترمب أن عزل الصين بات من أوهام الماضي، وأن منظور «بو آو» الصيني للعالم حكماً هو الرابح؟

الشرق الأوسط

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com