كأنّنا محكومون بـ «العدوان» و «الانتصار»
كأنّنا محكومون بـ «العدوان» و «الانتصار»كأنّنا محكومون بـ «العدوان» و «الانتصار»

كأنّنا محكومون بـ «العدوان» و «الانتصار»

حازم صاغية

يستولي علينا ميلٌ صار عادةً، والعادةُ صارت تقليداً، والتقليدُ صار احترافاً لمهنة نختصّ بها: تكرار ماضينا مرّةً بعد مرّة بشروط أسوأ. هذا التكرار غالباً ما يتحكّم به قطبان: العدوان والانتصار. يُعتدى علينا ثمّ ننتصر، لكنّ انتصارنا لا يحصّننا من أن يُعتدى ثانيةً علينا. ننتصر مجدّداً في انتظار أن يُعتدى علينا مجدّداً، وهكذا دواليك.

العدوان علينا يحفّز شعورنا بالمظلوميّة. الانتصار عليه يحفّز شعورنا بالبطولة. جمع المظلوميّة والبطولة في طرف واحد لا يُسبغ الكمال وحده على هذا الطرف. إنّه أيضاً ينسّب حركته إلى ما هو فوق – إنسانيّ. إلى ما هو ملحميّ وقدريّ جدير بإبداعات اليونان القديمة، أو برواية للتاريخ تتّصل بالأزل والأبد وتعبر التواريخ الموضعيّة.

اعتُدي علينا في 1948. انتصرنا بانقلاب 1952 في مصر وما أعقبه من انقلابات. اعتدي علينا في 1967. انتصرنا بحفاظنا على «الأنظمة التقدّميّة» وبنشأة المقاومة الفلسطينيّة. اعتدي علينا في 1973. انتصرنا بأن أخرجنا للعالم زعامة حافظ الأسد «بطل تشرين». اعتدي علينا في 1982. انتصرنا مرّة بعد مرّة قبل أن نرفع سويّة الانتصارات، في 2006، إلى مصاف إلهيّ.

الشكّ البديهيّ الذي تستدرجنا إليه هذه الحالة هو التالي: لا بدّ أنّ انتصارنا مصاب، في مكان ما، بعطل عميق، لأنّ المنتصر هو الذي لا يُعتدى عليه بهذه الكثرة وهذه السهولة. إنّه من يتمكّن، في لحظة ما، من وضع حدّ للعبة متمادية ومكلفة كهذه تتراوح بين العدوان والانتصار. إنّه من يتمكّن، في لحظة ما، من طيّ صفحة باتت ماضياً والبناء على انتصاره للمستقبل.

لكنْ بالطبع يبقى حبّ اللعبة أقوى لأنّ اللعبة هي وحدها المقدور عليها في انتظار عدوان جديد ننتصر عليه.

المثال الأكمل المستقى من الماضي القريب نسبيّاً هو «العدوان الثلاثيّ». الرقم ثلاثة هو وحده المغري: في مصر 1956 كانوا ثلاثة: فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. في سوريّة 2018 هم أيضاً ثلاثة: أميركا وبريطانيا وفرنسا. يكفي أن نجيد العدّ: واحد اثنين ثلاثة، حتّى تكتمل شروط التماثل. الفوارق الكبرى بين الضربتين غير مهمّة. الفوارق الكبرى بين الحقبتين غير مهمّة أيضاً. المهمّ إعادة إدخال العدوان والانتصار الأخيرين في «جدليّة» العدوان والانتصار الأبديّة. هكذا نملأ المكان الشاغر لجمال عبد الناصر، والذي حاولنا ذات مرّة ملأه بصدّام حسين، ببشّار حافظ الأسد. هنا تبلغ اللعبة ذروتها الدراميّة وينجلي القصد الفعليّ منها. بشّار هو عبد الناصر زمننا. هو صلاح الدين. هو صلاح ديننا. هو من لن تملك اللغة، بعد حين، الأوصاف التي يستحقّها.

هذا هو بيت القصيد: لقد انتصر بشّار الأسد على العدوان، وهو يتهيّأ لانتصار مؤكّد آتٍ، بعد عدوان مؤكّد آتٍ، يقال إنّ الإسرائيليّين موشكون على اقترافه بحقّ الإيرانيّين في سوريّة. إنّها، على أيّة حال، ليست المرّة الأولى التي تكون فيها سوريّة والسوريّون تفصيلاً عابراً بقياس الأبد والأزل. جئنا بانتصار آخر يا بشّار. التاريخ لعبة ممتعة. التاريخ مهنة مربحة.

الحياة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com