ولي العهد... والقوة الناعمة الفرنسية
ولي العهد... والقوة الناعمة الفرنسيةولي العهد... والقوة الناعمة الفرنسية

ولي العهد... والقوة الناعمة الفرنسية

إميل أمين

هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تكون فرنسا المحطة التالية مباشرة في زيارات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد الزيارة الناجحة للولايات المتحدة؟

تمثل أميركا القوة الخشنة وفيها جرت أحاديث الشراكات عبر مجالات القوة العسكرية وصناعات الطاقة الجديدة والبرمجيات والتكنولوجيا، بينما تبقى فرنسا، مع تقدمها العسكري والتقني، ميدان القوة الناعمة دبلوماسياً وثقافياً، فكرياً وأدبيـاً، حضارياً وإنسانياً.

القوة الناعمة لأي دولة تتصل بثلاث ركائز جوهرية؛ اقتصاد قوي، وقوة بشرية متماسكة ومترابطة، واهتمام وانتباه لمجريات الأمور حول العالم... وهذه تتوافر لفرنسا بشكل واضح سيما مع مجيء إيمانويل ماكرون إلى الحكم، وتلقي بظلالها أيضاً على تجربة الأمير محمد بن سلمان في السعودية حيث استنهاض قوى المملكة الحقيقية اقتصادياً عبر مجالات ما بعد الأفكار الكلاسيكية، ثم شباب واعٍ يمثل غالبية بنية المجتمع يدفع معه تلك التجربة إلى الأمام، وفي إطار من الرؤية اليقظة لاستراتيجية 2030.

تبقى فرنسا في كل الأحوال عقل أوروبا النابض ومؤشرها التنويري الكلاسيكي عبر ثلاثة قرون خلت، وعليه فإنه عندما تشرق أنوارها الناعمة تستضيء أوروبا بأكملها، وقد كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة هناك تجربة تدلل على أن قوة فرنسا الناعمة الحقيقية هي في صحوتها لا غفلتها، وفي تسامحها لا تشددها، وفي اختيارها رجلاً يقبل الآخرين، لا سيدة تحمل مشاعر التعصب والتزمت تجاه المغاير.

مرة أخرى تحمل الأقدار تشابهاً كبيراً مع تجربة الأمير محمد بن سلمان في الانفتاح الواعي على العالم، والتسامح والتصالح مع الآخرين، بدءاً من الداخل وصولاً إلى الخارج، الأمر الذي يختلف كل الاختلاف عن أزمنة التحجر الفكري حين سادت هجمات الأصولية على قيم التنوير والعقلانية.
نجح الفرنسيون في الحفاظ على قوة بلادهم الناعمة حين حرصوا على أن تبقى دولتهم دولة حريات تتعالى عن صيحات التخويف والتخوين التي تنساب بين شرايين أوروبا اليوم، ورفضوا السقوط في جب الخوف الذي وقعت فيه دول القوة الخشنة مثل الولايات المتحدة، والتي تعيش الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ولم تستطع العبور إلى الثاني عشر منه.
حين يستهل الأمير محمد بن سلمان زيارته إلى فرنسا بلقاء رئيسها الشاب ماكرون على عشاء بين جنبات متحف اللوفر، فإن فرنسا هنا تجاهر وتفاخر بقوتها الناعمة، وكأنها تحتفي بضيفها الكبير بين جنبات «خزانة حضارة الأرض» إن جاز التعبير، والذين زاروا اللوفر من قبل يدركون شواهد التاريخ وسرديات الأمم القابعة بين أروقته، تلك التي تدلل على ما للقوة الناعمة من أهمية في صهر سبيكة الإنسانية دون نظريات «صدام حضارات»، أو شوفينية لـ«نهاية التاريخ»، وصولاً إلى مفاهيم مثل «الإنسان الأعلى» أو «السوبر مان» التي جرّت وبالاً كثيراً جداً على البشرية.
الزيارة إلى فرنسا تعطي مسرباً جديداً لمسح الغبار عن التاريخ الحضاري والإنساني للمملكة وإعادة قراءة سيرتها الحضارية الأولى، ما يتجلى على الأرض في تطوير منطقة العلا لتكون متحفاً إنسانياً مفتوحاً يبرز تاريخ البشر الذين عاشوا هناك قبل ألفي عام وأزيد، حيث مدائن صالح التي تعود إلى مملكة الأنباط التي وجدت تاريخياً قبل مائتي عام قبل الميلاد، والمشيدة في صخور صحراء شمال المملكة، وقد كانت محط اهتمام علماء آثار فرنسيين، الذين بدأوا بالتنقيب فيها عن التراث الإنساني منذ عقدين من الزمن.
القوة الناعمة للمملكة اليوم هي تلك التي تسعى حقاً للتصالح مع السيرة والمسيرة الإنسانية في تلك البقعة الصحراوية من الأرض والتي شهدت تلاقحاً وتنافحاً إنسانيين تؤكدهما المعسكرات الرومانية والنقوش الصخرية ومواقع التراث الإسلامي، عطفاً على بقايا خط الحجاز للسكك الحديدية الذي يعود إلى العهد العثماني، وقد كان ممتداً من دمشق إلى المدينة في أوائل القرن العشرين.
زيارة فرنسا وإن شهدت توقيع 20 مذكرة تفاهم بين الشركات السعودية ونظيرتها الفرنسية، فإنه وفي تقدير كاتب هذه السطور يظل أهمها العقد الحكومي الذي يستمر لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد والذي يتضمن إنشاء وكالة سعودية فرنسية تعمل في مجال الحفريات الأثرية، وتطوير المفاهيم المتعلقة بالمتاحف، والتخطيط بشكل أساسي لجعل السياحة مدخلاً رئيسياً من مداخيل الدولة عبر استجلاب ملايين السياح من جميع أرجاء العالم، ما يعني أن الرؤية الناعمة لنهضة 2030 تتساوق بالقدرة نفسها مع جهوزية القوة الخشنة لتحدث حالة من الانسجام الضروري لنهضة أمة.
حين تعلن وزيرة الثقافة الفرنسية فرنسواز نيسين كذلك أن المملكة سوف تشهد مولد دار أوبرا، وتشكيل أوركسترا موسيقى وطنية، فعلى القارئ والسامع والمشاهد أن يدركوا أن هناك إرادة وطنية في المملكة لتطوير قوى الإنسان السعودي الناعمة من خلال الفنون الرفيعة، وهي أيضاً دون أدنى شك أحد أهم أسلحة محاربة التطرف والإرهاب، فالذات الراقية تسمو عن «إدارة التوحش»، وتباعد بينها وبين عوالم الكراهية والدماء.
أحلى الكلام... طريق محمد بن سلمان طريق قوى التنوير الناعمة الصاعد والمحفوفة بالإخاء والمساواة والعدالة في الحال والاستقبال.

الشرق الأوسط

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com