هذه هي السعودية الجديدة
هذه هي السعودية الجديدةهذه هي السعودية الجديدة

هذه هي السعودية الجديدة

راجح الخوري

رسمت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والوفد الوزاري الواسع، وكبار المسؤولين الذين رافقوه، في جولته الشاملة على الولايات المتحدة، مفهوماً جديداً في سياسة تطوير العلاقات وتزخيم التعاون بين الدول، عبر نمطية مصممة وحماسية، تعمل وفق قاعدة الحرص على أن تأتي الإنجازات التي يراد التوصل إليها أضعاف قيمة الوقت الذي يصرف عليها.

وقياساً بهذا الشريط المتلاحق والمفعم بسلسلة متلاحقة من الزيارات والمباحثات والنقاشات، وما نتج عنه من عشرات الاتفاقات الحساسة والمهمة على كل الصعد تقريباً، سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وصحياً وثقافياً، قد يكون من حق المراقب أن يسأل:

ترى ما الذي لم يفعله بعد الأمير محمد بن سلمان في جولته الأميركية المثيرة، المفعمة بروح الحماسة الشابة والطموحة، التي تريد استثماراً سريعاً للجهد ونتائج مضاعفة للوقت، واستجابة موضوعية لتحقيق الأهداف المرسومة بدقة؟

من المكتب البيضاوي والقمة الدافئة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي حرص على أن يحشد أركانه للاستماع لولي العهد، إلى اللقاءات الدافئة والنقاشات المستفيضة مع رجال الكونغرس في نيويورك، ومع أنطونيو غوتيريش والمسؤولين في الأمم المتحدة حول قضايا المنطقة، وإلى كاليفورنيا وسان هوزيه عاصمة التكنولوجيا والاتصالات العملاقة، «غوغل»، و«أبل» و«مايكروسوفت» وغيرها، إلى الوسط الثقافي والجامعي الأرقى في العالم، إلى الدائرة الواسعة للمال ورجال الأعمال، إلى أحدث الجامعات ومراكز البحوث الطبية والعلمية.

تجاوزت قيمة الاتفاقات والصفقات التي تم الاتفاق عليها بعد دراسات سابقة معمقة في الرياض وواشنطن، 400 مليار دولار، وشملت حقول النفط والغاز ومروحة من البرامج الاقتصادية الهادفة والمختصة، التي ترسي الشراكة مع أهم القوى الاقتصادية العالمية، بهدف تأمين مزيد من الدعم لـ«رؤية 2030»، التي ستجعل من السعودية قاعدة محورية للتطور في الإقليم، ولمستقبل العلاقات الدولية، انطلاقاً من هذه المنطقة الحيوية من العالم؛ لكن الاتفاقات تجاوزت القطاعات النفطية لتشمل التكنولوجيا والثورة الرقمية، التي كانت مدار نقاش معمّق بين ولي العهد وأصحاب الشركات المختصة، ومنهم مايكل زوكربيرغ مؤسس «فيسبوك»، وغيره من الذين جعلوا من «سيليكون فالي» عاصمة التقنيات الحديثة.

بدت صورة ولي العهد وهو يهبط الدرج مع زوكربيرغ إلى «فيسبوك»، كواحد من الشركاء في عالم صناعة الاتصالات المستقبلية، فهو لم يصل كأمير زائر؛ بل كرؤيوي يملك مشروعاً يمتد على ثلاث دول، هي السعودية ومصر والأردن، وهو مشروع «نيوم» الذي يطمح لأن يكون «ريفييرا الخليج» كما يقول البعض، بل أيضاً وادي السيليكون الخليجي، الذي سيكون من ضرورات الحياة وتطورها، ليس في مدينة «نيوم» وحدها؛ بل في المملكة والمنطقة.
أما عندما وقف يوم الاثنين في نيويورك، متوسطاً في بيئة من الصداقة والإعجاب، ماسايوشي سون المدير التنفيذي لمجموعة «سوفت بنك» اليابانية مع كبار موظفيه، فإنه بدا مرة ثانية رؤيوياً لجهة مبادرته في تأسيس صندوق استثماري، برأس مال تصل قيمته إلى 100 مليار دولار، بمشاركة صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ليكون أكبر صندوق للاستثمار المباشر في العالم، والاتفاق على إنشاء أوسع حقل في الدنيا لإنتاج الكهرباء من الشمس!
وفي إطار الاتفاقات الهادفة والضرورية، تبرز المسألة الصحية والسعي الهادف لجعل السعودية مركزاً إقليمياً للرعاية الصحية، وذلك من خلال إبرام ولي العهد عدداً من المشروعات الواسعة، لإنشاء مدن طبية وبنى تحتية وفق أعلى المعايير، ومن خلال استقطاب أهم الكوادر الطبية.
من الاتفاقات العسكرية التي وصلت قيمتها إلى 130 مليار دولار، إلى أدق التفاصيل المتعلقة بـ«رؤية 2030»، التي تشكل قاعدة الجسر الأساسي لإرساء القواعد الراسخة للعقد الاجتماعي الجديد في المملكة، الذي ترفده بالضرورة قاعدة ثانية، وهو مشروع «نيوم»؛ لأن البعد الأعمق لهذا العقد، يركّز عميقاً على تطوير قطاعي الاجتماع والاقتصاد، اللذين يرتبطان ترابطاً تفاعلياً ليحققا الأهداف المرجوة.
كما تعمّد ولي العهد إكمال ما بدأه في مصر من مبادرات الانفتاح، فالتقى يوم الخميس الماضي ثلاثة من قادة الكنيسة الكاثوليكية، وثلاثة من قادة اليهودية، وقالت السفارة السعودية إن اللقاء شدد على الروابط المشتركة بين جميع البشر، مؤكداً أهمية التسامح والتعايش والعمل معاً من أجل مستقبل أفضل للبشرية.
إن عقد هذه الدزينات المهمة والضرورية من الاتفاقات لتطوير المسار الإنتاجي التطويري والوظيفي للمملكة، استعداداً لما بعد النفط، وهو ما سبق أن أشار إليه ولي العهد، يأتي متوازياً بدقة وشجاعة هائلتين مع قرارات التطوير والتغيير التاريخية التي تشهدها السعودية، فقد أمر خادم الحرمين الشريفين وولي عهده بتغييرات جذرية، منها مثلاً منح المرأة حق قيادة السيارة، وكذلك لم تعد المرأة السعودية مُلزمة ارتداء العباءة، ومن المتوقع رؤية مزيد من النساء في مناصب عالية في الحكومة، وحتى على المستوى الوزاري، فللمرأة السعودية القدرة على المساهمة في تطوير بلدها بإطلاق طاقاتها.
منذ زيارته الأولى بعد إعلانه «رؤية 2030» شكلت هذه الرؤية اهتماماً غير مسبوق في الولايات المتحدة ودول الغرب، ومن الواضح تماماً أنها القاعدة الصلبة التي ستقوم عليها فلسفة العقد الاجتماعي السعودي الجديد، الذي لا يرسم مستقبل المملكة وحدها؛ بل سيقرر مستقبل المنطقة وطبيعة العلاقات معها.
إن الإصلاحات في التعليم عبر مؤسسة «مسك» التي أطلقها ولي العهد، ورسم أطر حياة جديدة طبيعية خارج القيود غير المفيدة، وتشكيل هيئة عامة للترفيه، ووصول فنانين أجانب لإحياء حفلات، بالموازاة مع عودة الحركة إلى السينما والمسرح، كل هذا يأتي في سياق واحد ورؤيوي، عبر السعي الدؤوب لإرساء جسر السعودية الجديدة إلى المستقبل، على قاعدة عقد اجتماعي اقتصادي متلازم ومحكم.
أستطيع القول: هذه ليست مجرد جولة تاريخية ناجحة لولي العهد السعودي في أميركا، بمقدار ما هي عملية اجتياح، نعم اجتياح رافقته البسمة أينما حلّ.. اجتياح ودي غير مسبوق، يقوم به زعيم يرافقه حشد كبير من الوزراء وكبار المسؤولين، الذين تعصف فيهم روح الشباب والطموح واستعجال التقاط ثمار المستقبل. وفي السياق يأتي مقال وزير الثقافة والإعلام السابق الدكتور عادل الطريفي، الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، والذي رد فيه على قول البعض: «إن الأمير محمد على عجلة من أمره»، مذكراً بقول ولي العهد دائماً: «إن الوقت عدونا، ولا نستطيع أن ننتظر أكثر لإصلاح بلدنا».
ولأنه يقول دائماً: «إن الوقت هو الآن، والمستقبل هو اليوم»، فإن ولي العهد قد كرر في خلال زيارته أكثر من مرة: «إننا نعيش مرحلة التغيير»، بما يعني ضمناً أن التغيير هو الحافز الدائم للتحرك والعمل. وهكذا عندما استضافت السفارة السعودية في واشنطن العشاء السنوي الأول للشراكة السعودية الأميركية، الذي اختير له عنوان «معاً ننتصر»، وهو يأتي بعد 80 عاماً من الشراكة المميزة بين البلدين، أعلن ولي العهد بحماسة: «نحن في المملكة نعيش مرحلة التغيير… مرحلة اقتناص الفرص التي نطمح إلى أن نعمل فيها مع شركائنا، وإن العلاقات السعودية الأميركية امتدت لأعوام طويلة، وبنيت على الثقة والشراكة الاستراتيجية». أما الأمير بندر بن سلطان الذي كان عميداً للسفراء العرب في واشنطن، والذي كان يحضر الحفل، فقد حرص على التنويه بالعلاقات التاريخية بين البلدين، عندما خاطب الحضور من الزعماء الأميركيين بالقول: «لن أبدأ بسيداتي سادتي… بل بأصدقائي؛ لأننا كذلك».

الشرق الأوسط

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com