الدولة القومية والأشكال المتغيرة
الدولة القومية والأشكال المتغيرةالدولة القومية والأشكال المتغيرة

الدولة القومية والأشكال المتغيرة

رضوان السيد

منذ أكثر من عقدين، تصاعد الانتقاد للدولة القومية في الديمقراطيات العريقة بأوروبا، وفي الولايات المتحدة وأستراليا، وأخيراً في دول الديمقراطيات الجديدة، مثل روسيا ودول شرق أوروبا والبلقان. أما فيما كان يُعرف بدول العالم الثالث وضمنها العالم العربي وأفريقيا وآسيا، فإنّ الانتقاد للأمة -الدولة أقدم من ذلك بكثير.

إنّ المشكلات التي ظهرت في دول الديمقرطيات، ناجمة عن أنّ توجهات الناخبين صارت تمضي باتجاه الهوية والخصوصية، وهما أمران تراجعا بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح الأنظمة التعددية الواسعة، التي سادت بين نُخَبها نزعة الهروب من القومويات الشمولية التي جاءت بموسوليني وهتلر إلى السلطة، وكانت بين أسباب الحرب العالمية الثانية.

وقد بدت هذه السَعَة في الدساتير الجديدة أو المعدَّلة التي تقول بالحقوق الأساسية لسائر المواطنين وحكم القانون، والتي تتعدى الدول إلى ميثاق الأُمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وظلّت هذه «الثقافة» سائدةً حتى سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته. ثم بدأ صعود اليمين القومي (الإثني)، والديني والجهوي، ومع ازدياد هذه الموجات وتناقضاتها داخل الدول العريقة، ازداد التسارُعُ باتجاه القادة الشموليين (روسيا والصين والهند) الذين يدعمهم الجمهور في الانتخابات العامة، باعتبار راديكاليتهم في الحفاظ على مصالح الإثنية الرئيسية في البلاد. وما توقع أحدٌ في البداية أنّ هذه النزعة ستمتد إلى دول العراقة الأوروبية أو الأميركية، لكنّ هذا الأمر حصل ويحصل في دول أوروبا الغربية ووصل إلى الولايات المتحدة.

وكما سبق القول، فإنّ هذا النزوع الجماهيري إلى الشعبوية الشاملة والهويات الضيقة حصل في الدول حديثة الاستقلال في أفريقيا والعالم العربي، إذ ساد في بعضها شموليون عسكريون وغير عسكريين (إندونيسيا ونيجيريا ومصر والعراق)، كانت لهم شعبيةٌ واسعة، وصارت الانتخابات العامة مجرد شكليات لازمة لبقاء الزعيم. وكان هذا الأمر أسهل في تلك الدول، لأنّ الدستور ما كان مطبقاً ولا حكم القانون. ثم إنّ الجمهور والنُخَب كانوا خائفين على هزّ الاستقرار، نتيجة ضغوط الأقليات والسياسات الدولية.

لقد صار هذا التصدع ظاهراً في زمن الهيمنة الأميركية عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، مما دعا المراقبين إلى تسمية تلك الحقبة: حقبة الفوضى، ثم شاعت تسميتها بزمن السيولة، وهو زمنٌ لا يزال مستمراً حتى اليوم.

لقد دفعني هذا الأمر قبل عقدٍ من الزمان في مجالنا إلى تشخيص حالة السيولة بأنها: الخوف من الدولة والخوف عليها، باعتبارهما نزعتين تتصارعان، مع عدم الجزم بأيٍّ منهما سيتغلب، وصرتُ أميل إلى تسمية الدولة الوطنية بدلاً من الدولة القومية.

لكنّ الأمر الآن تجاوز التجاذب بين الخوفين، إلى تصدع فكرة الأمة التي تقوم عليها وحدة الجماعة السياسية، إذ ما عاد من الممكن التنبؤ بمستقبل الوحدات السياسية، أياً تكن تسميتها.

الدولة القومية -كما نعلم- من مواريث القرن ال19. ثم صارت عماد النظام العالمي بعد زوال الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى. وفي حقبة المطالبة والنضال للتحرر من الاستعمار، جرى الإرغام من جانب الغرب أن تكون الدول الجديدة مبنيةً على أساس: الأمة -الدولة، أو أنّ الحق في الدولة المستقلة يستند إلى وجود أمة قومية. وسمّى الفرنسيون كيان لبنان الكبير الذي صنعوه في دستور عام 1926، الأمة اللبنانية، غير آبهين بعدم وجود تلك الأمة، لأنه لا دولة من دون أمة! وفي ظل إغراء الدولة ظهرت عدة أُممٍ في الشرق الأوسط وحده، فكيف بأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبدا أنّ النظام الدولي الجديد لن يستقرَّ لحين نشوب الحرب الباردة بين الجبارين في مطلع الخمسينيات، فتراصّت دولٌ ودويلاتٌ (قومية) تحت راية السوفييت، ودول ودويلات تحت راية الولايات المتحدة. وضاقت الجغرافيات الطبيعية والسياسية بالدول المصنوعة من دون أُمم، والجماعات المتنطحة لوضع الأمة القومية لكي تحصل على دولة. ودام ذلك كلُّه إلى أن انهدَّ الركن السوفييتي للنظام الدولي، فعادت الخصوصيات الإثنية والدينية والجهوية إلى الازدهار، كما عادت الأوضاع إلى السيولة.

ومع ذلك، فالذي أراه أن مستقبل موجة الخصوصية والهوية الشعبوية المتشددة والإقصائية، سيتقرر في الوحدات الكبرى، في أوروبا وأميركا وروسيا والهند والصين، وليس عندنا. إذ على التطورات في تلك الأمم-الدول، سيتقرر مستقبل النظام العالمي، الذي يصنع الضوابط أو يشرعن الانفلاتات.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com