«بيسكو».. أو زمن نهاية «الناتو»
«بيسكو».. أو زمن نهاية «الناتو»«بيسكو».. أو زمن نهاية «الناتو»

«بيسكو».. أو زمن نهاية «الناتو»

إميل أمين

لنحو سبعة عقود ظل النظام الدولي من دون تغييرات، أي منذ قيام الحلفاء الغربيين بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بتأسيس الهياكل الدولية المعنية باحتواء الشيوعية وتهيئة الظروف للدفاع عن المعسكر الغربي في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وفي المقدمة من تلك الهياكل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذي تأسس في الرابع من أبريل عام 1949 وأضحت العاصمة البلجيكية بروكسل مقراً له.

الواقع الجديد والمختلف الذي يواجهه العالم المعاصر يطرح علامة استفهام: «هل نرى في الأفق علامات تفكك الحلف، سيما بعدما كثر الحديث عن بلورة الأوروبيين لجيش خاص بهم، وبعيداً عن الشراكة الاستراتيجية مع أميركا؟ غير خاف على أحد أن الشعارات التي رفعها الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» خلال معركته الانتخابية الرئاسية، قد دعت الأوروبيين إلى التفكير ملياً في مستقبل العلاقة بين ضفتي الأطلسي وبصفة خاصة الألمان، وفي مقدمتهم المستشارة ميركل التي صرحت في مايو الماضي بأن أوروبا لا يمكنها أن تعتمد على شركاء أجانب بعد الآن، وأن أوروبا يجب من الآن أن تجعل مصيرها بيدها.. هل هذا طريق «جيش أوروبي» بداية ليكون بديلاً عن «الناتو»؟

شيء ما من هذا السيناريو تمضي به الأحداث، سيما بعد إعلان الاتحاد الأوروبي مؤخراً عن توقيع 23 عضواً من إجمالي 28 هم عدد كامل أعضائه على اتفاقية «بيسكو»، أي «اتفاقية التعاون الدفاعي المنظم»، والتي توصف ربما تأدباً بأنها ذات مهام تكميلية لحلف «الناتو»، وليست بديلاً عنه، وإن كانت تصريحات فيدريكا موجيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، تشي بغير ذلك.

والشاهد أن الدول الموقعة على الاتفاقية قدمت نحو خمسين مشروعاً مشتركاً في مجالات القدرات الدفاعية العسكرية، بهدف تعزيز الاستقلال الاستراتيجي ومساعدة دول الاتحاد على مواجهة التحديات الأمنية.

لم يدارِ أو يوارِ الجانب الألماني حقيقة اتفاقية «بيسكو»، إذ اعتبرها وزير الخارجية الألماني «زيجمار جابرئيل» خطوة مهمة نحو الاكتفاء الذاتي، وتعزيز سياسة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي.

ملامح الشقاق والفراق بين أوروبا و«الناتو» ليست جديدة، ففي حين يطالب الرئيس ترامب بزيادة حصص الدول الأوروبية بنسبة 2% من الناتج القومي الإجمالي على الجانب الدفاعي، ترى دول الاتحاد الأوروبي أنها نسبة مغالى فيها.

ومع ذلك، فإن الأوروبيين وبموجب اتفاقية «بيسكو» قبلوا وبصدر رحب، زيادة الإنفاق العسكري فيما بينهم، وإنْ بنسب أقل من التي يبدو الشريك الأميركي وكأنه يفرضها فرضاً. هل يعني ذلك أن أوروبا متفقة فيما بينها على معالم وملامح المستقبل؟ يمكن القول إن ذلك ليس استنتاجاً منطقياً، فبريطانيا المتوقع مغادرتها الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2019 لم توقع على اتفاقية «بيسكو»، وهي الدولة الكبرى ذات الثقل والعمق الاستراتيجي في وسط القارة الأوروبية، عطفاً على رفض الدنمارك ومالطا والبرتغال وإيرلندا التوقيع.

هل تعزز التحديات المشتركة التي تواجه الأوروبيين اليوم من حاجتهم إلى «بيسكو»؟ يمكن أن تكون المخاوف من تعاظم الدور الروسي في المنطقة الأوراسية دافعاً للأوروبيين لمزيد من التكتل، وقد كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا والنزاع شرق ذاك البلد، عطفاً على التحدي الديموغرافي الأكبر المتمثل في موجات الهجرة واللاجئين، دافعاً جدياً وحيوياً في البحث عن حائط صد ورد بعيداً عن الجيوش الأميركية، ولهذا فإن البعض يتساءل عن جيش «الشنجين»، وهل أضحى تحقيقه قريباً أم ستظل النزعات العرقية بين المثلث الأوروبي التاريخي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عاملاً مثبطاً لنشوء وارتقاء جيش أوروبا الموحد؟

أضحى الوضع في أوروبا مؤخراً مثار قلق الأوروبيين أنفسهم، وقد باتت خيمتهم الاتحادية مرتكزة على أعمدة أقل بعد انسحاب بريطانيا، فيما مستقبل الاتحاد برمته مجهول أو ضبابي على أحسن تقدير، وعلى غير المصدق قراءة التقرير السري الذي أعده محللو الجيش الاتحادي الألماني «البوندسفير» عن انهيار الاتحاد، ونشرته مجلة «ديرشبيجل» الشهيرة مؤخراً. التقرير يحمل عنوان «المنظور الاستراتيجي 2040»، أي أحوال أوروبا بعد نحو اثنتي عشرة سنة، وهو زمن قريب في عمر الدول والقارة العتيدة، وكل السيناريوهات القائمة فيه تقود إلى القول بأن الاتحاد لن يبقى على حاله طويلاً، وقد يقود المشهد ألمانيا إلى أن تتزعم الحضور الأوروبي مرة جديدة؛ إذ ستنتقل إلى ما يسمى «نظام التدخل السريع والفعال».. هل لهذا نرى ألمانيا في أوائل المتحمسين لاتفاقية «بيسكو»؟ العارفون ببواطن الأمور أوروبياً يدركون أن ألمانيا باتت قلب المفاعل الأوروبي النابض والحيوي، وهي قلقة على موقعها المتميز في الاتحاد سياسياً واقتصادياً، ولهذا فهي تزخم المشروعات، التي تعزز من وحدة أوروبا على كافة الصعد. لكن على جانب آخر هناك مخاوف من بقية الأطراف الأوروبية من ترك ألمانيا تصحو من جديد لئلا تتكرر تجربة النازية المؤلمة.. هل سنشهد قريباً الفيلق الأوروبي الذي حلم به ميتران وكول وساعتها ستكون نهاية «الناتو» حتمية مؤكدة؟

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com