أميركا.. والطريق إلى «عمورة»
أميركا.. والطريق إلى «عمورة»أميركا.. والطريق إلى «عمورة»

أميركا.. والطريق إلى «عمورة»

إميل أمين

مثير جداً إلى حد العجب شأن الولايات المتحدة الأميركية ففي الوقت الذي ترسم فيه خططها الاستراتيجية لتتسيد العالم لمدة مائة عام بحسب وثيقة «القرن الأميركي» للمحافظين الجدد التي تم بلورتها نهاية تسعينيات القرن المنصرم، نرى بعض من عقلائها يذهب إلى أن مستقبل تلك الدولة – الامبراطورية غير مبشر بالمرة، بل إنها تكاد تمضي في سير وئيد نحو «عمورة»، وهو العنوان الذي اختاره المحامي العام الأميركي الأسبق «روبرت إيتش. بورك» عنواناً لكتابه، والذي يعد نبوءة استشرافية لمستقبل الولايات المتحدة.. لكن ماذا عن «عمورة تلك»؟

عبر سطور الكتاب الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، ومن ترجمة الأستاذ إبراهيم محمد، تحليل شافٍ لأصل الكلمة، والتي هي مدينة تقع بالقرب من البحر الميت، بجوار مدينة شقيقة لها في الإثم تدعى «سدوم»، وقد جاء ذكرهما في التوراة والقرآن، بوصفها الأرض التي عاش فيها النبي «لوط» مع قومه، ومن جراء فسقهم وشيوع الفاحشة بينهم حق عليها القول، ولقوا من الدمار والعذاب الأليم أشنعه.. هل أميركا اليوم على هذا النحو، ولهذا تمضي قدماً في طريق سدوم وعمورة؟

الشاهد أنه في شهر يونيو من عام 2015 أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكماً اعتبره البعض تاريخياً، يقضي بحق المثليين في الزواج في الولايات الأميركية كافة. الحكم الذي يخالف النواميس الإلهية كافة والأديان التوحيدية اعتبره الرئيس الأميركي وقتها «باراك أوباما».. «انتصار لأميركا.. وانتصار للحب».

حكم لم تكن أميركا بأكملها وراء هذا القرار، فهناك الملايين الذين يرفضونه، وترى أنه مجلبة للغضب الإلهي الذي بدا يخيم فوق سماوات البلاد، من خلال تفكك نسيجها الوطني الشعبي، وصحوة النعرات العرقية، والمضي قدماً في طريق الحروب المهلكة، التي دمرت إمبراطوريات مشابهة من قبل.

يؤكد «بورك» أن أميركا بالغت في سلوكها الليبرالي وتطرفها في ممارسات مختلفة في الاقتصاد والرعاية الاجتماعية والممارسات الطبية من إباحة الإجهاض والتجارب على الأجنة، والقتل الرحيم والمساعدة على الانتحار للمرضى الذين لا رجاء في شفائهم. ألا يكفي ذلك لتأكيد القول بالسير الوئيد نحو عمورة؟

مؤخراً باتت الحكومة الفيدرالية تطارد المؤسسات الأميركية ذات المسحة الدينية، مثلما يحدث مع المستشفيات الكاثوليكية، المطلوب منها إجراء كل ما هو خارج عن حدود أخلاقيات الطب بدعاوى الحرية الشخصية، وإلا فإنها ستحرم من المساعدات المالية، بل إن بعض المحاكم ذهبت في مقاضاة الذين يرفضون بوازع ديني السير نحو عمورة.

عادة ما يكون انهيار الحضارات من داخلها، والحديث عن الولايات المتحدة يدور حول مَدنية عريضة عرفت طريقها إلى العلوم التجريدية والقوة العسكرية ربما بأكثر مما عرفت أي إمبراطورية أخرى في التاريخ، غير أن هذا لا يعني بالضرورة أنها امتلكت حضارة بعينها، فالحضارة هي تراكمات من المثل والمبادئ، والقيم والأخلاقيات، والتي تنزع عادة للسير في طريق أصحاب الرسالات السماوية، لا التجديف ضدها في بحر العالم الهائج المائج المضطرب.

في مؤلفه «مدينة الله» يحدثنا أوغسطينوس «الفيلسوف والقديس عن مدينتين نتجتا عن حبين، حب الله وإنكار الذات بنى مدينة السماء، وحب الذات وإنكار الله بنى مدينة الأرض. أين تقع أميركا اليوم بين المدينتين؟

لا يمكن التوصل إلى نتيجة من دون التطلع إلى أحوال البلاد والعباد، فأميركا اليوم، وإن بدت متماسكة وتسوس العالم إلا أن ذلك غطاء يخفي وراءه حالة من الفوضى الاجتماعية، وما يصحبها من مآسٍ شخصية مثل معدلات الجريمة المرتفعة، والعقوبات المنخفضة، وارتفاع معدلات التفكك الأسري من خلال الطلاق، وهذه الأمراض باتت اليوم مقبولة على نطاق واسع بحيث أنها ترتبط بعضها بعضاً.

لكن لماذا وصلت أميركا إلى «مدينة الأرض» على هذا النحو؟ يبدو وبحسب «بورك» إن السبب التقريبي لهذه الأمراض هو افتتان الليبرالية الحديثة بحق الفرد في الإشباع الذاتي، إلى جانب ذلك النوع من المساواة المطلقة القائمة إلى حد كبير على الذنب الذي يكبح التعقل والإصلاح، وهي أمراض يسهل الوقوع فيها ويصعب الخروج منها، ولا يوجد أي اتفاق في الواقع على كيفية علاجها.

كان الدين عاملاً أساسياً في بناء أميركا غير أنه اليوم يُنظر إليه بوصفه إشكالية وشأناً هامشياً، وعندما تضيف إلى ما تقدم أزمة الهوية والقومية والتمايز بين البشر داخلها برغم كل ما يُقال عن المساواة، فالحاصل أن أميركا بالفعل تمضي في طريق وئيد نحو عمورة. هل من مفر من هذا المصير المحتوم لأميركا؟

ربما لا يكون المشهد قدراً مقدوراً في زمن منظور بالفعل، غير أن التغيير يحتاج إلى قيادة كاريزماتية تنزع إلى تحرير أميركا من أوهامها الليبرالية المغشوشة، ومن نخبة سياسية طال الفساد معظمها، لكن هذه الشخصية غائبة في الأفق السياسي الأميركي الآن، وربما تظهر في المستقبل.

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com